الجمعة 2023/05/12

آخر تحديث: 00:28 (بيروت)

"عمر ما بينطر حدا"

الجمعة 2023/05/12
"عمر ما بينطر حدا"
"الفصول الأربعة" للفنان التشيكي ألفونس موخا
increase حجم الخط decrease
أمسك بشعرة لفَظَها رأسي، أتأملها، أقلّبها، تأخذ من وقتي أكثر من الوقت الذي أخصصه لارتداء ملابسي. تتدفق أفكاري وكأنها تسعى إلى تحريك الشعرة بين أناملي.

تساقط الشعر لا يرتبط بالعمر، ليس مؤشراً كتسلل البياض إلى جذوره، لكنّه يستوقفني.

أمسك بشعري، أتأمله غير مُصفّف. لا أعلم ما الذي يزعجني أكثر، شعري الذي يبدو لونه باهتاً لأني لم أزُر مصفف الشعر هذا الأسبوع، أو أظافري التي سيطر عليها منذ فترة اللون الأبيض والألوان المحايدة، بعدما سكنها الأحمر الصاخب لأعوام، حين كانت ضحكتي أعلى، وكنت ألوّن شعري بتغيّر الفصول، وأقصّه قصيراً.

وطأة العمر صعبة. يتسلل العمر بأشكال مختلفة، منها خطوط صغيرة تحفر في الجلد، فترتسم على الجبين وفي محيط العينين والفم. زارعة قاعدة كبيرة للعدو في مساحة الوجه.

المعركة في مواجهة العمر قاسية، تلزمها ممارسة الرياضة والتأمل والكثير من الاهتمام. سباق دائم بين الشعر الأبيض والصبغة، وبين التجاعيد وإبر البوتوكس والفيلر، وبين الإقتناع بالحاضر والتوق إلى صخب الحياة. بالنسبة للبعض، هذه الدوامة استهلاكية استغلالية يمكن التخلي عنها، أما بالنسبة لي، فهذه الدوامة هي الداعم الأول في مسيرة مواجهة هذا العمر الذي أتى مخيباً للآمال في كثير من مفاصله. أن أكون امرأة منتجة أكسب رزقي بعملي، ولم يحدث لي أن تعرفت على نوع العرق الذي يفرزه جبين ماريان الحويك، أجدني أركض بحثاً عن حياة كريمة وعَيش يليق بما أطمح إليه.

الانهيار الكبير قفز بنا سنوات كثيرة إلى الوراء. هذه العودة لم تمحُ أياً من سنين العمر، إنما قضت فقط على إنجازاته، فبات علينا العمل تماماً كما لو أننا نبدأ حياتنا المهنية، لكن بهمّة مثقلة بالسنوات التي مضت.

الإنبعاث من تحت الرماد ليس سهلاً، ولا هو من مميزات جميع اللبنانيين. فالقادر على تقليد طائر الفينيق، غالباً ما يكون مدعّماً بثروة عائلية أو إرث سياسي واجتماعي. العمل بهمّة الخريجين، وفي تنافس مع الذكاء الاصطناعي أو حتى بدعم منه، ليس بالأمر السهل، إذ تجد نفسك فجأة محصناً بخبرة ذات حدّين، وقد تضرّ أكثر ممّا تنفع. فالخبرة نتيجة رقم كبير، يشير إلى عمرك، ولن ينعكس بالضرورة على راتبك. تماماً كما أن المنطق العصري في التوظيف بات أكثر تحديداً للاختصاصات والخبرات، وتعدد التوجهات والانتاجات لن يفتح بالضرورة الآفاق.

يتسلّل الإرهاق، النفسي منه بشكل خاص، إلى يومياتي. الواجبات تجاه الجميع متمّمة على أكل وجه، ما عدا شخص واحد... أنا. وحدها الدقائق القليلة التي أمضيها وحيدة في السيارة قبل أن أدخل من باب ما، هي التي تمهلني استراحة محارب مُرغَم لا بطل... هذه العزلة في المكان الوحيد الذي يمكّنني من الاختلاء بنفسي، بأقل تكاليف ممكنة.

شعور لا يمكن الحصول عليه إلاّ في الطائرة، عندما تسافر وحدك معلقاً بين السماء والأرض، غير مُطالَب بأي مسؤولية، وغير متوافر لأسباب خارجة عن إرادتك، فلا لوم ولا ملامة.

في كثير من الأحيان، أتأمل البحر. أراه واسعاً كصدري، يحمل الكثير من الهموم والمتاعب، ويبدو هادئاً كملامحي. موجات غضبه لا تؤخذ على محمل الجد، تماماً مثلما يظن الآخرين أن ما أشعر به فورة غضب، ستنتهي بانتهاء الحديث.

العمر يحفر في نفسي عميقاً، حيث وقعه أكبر من وقعه على ملامحي التي، رغم الخطوط المتسلّلة الى بشرتي، ما زالت أكثر صبا من قدرتي على التحمل. قدرة أحاول تفريغ حمولاتها في جلسات بوح عند المعالج النفسي متى استطعتُ إليه سبيلاً.

"عمر ما بينطر حدا"، عنوان ديوان شعر للشاعر حبيب يونس، يبدو الأكثر تعبيراً عن الهاجس المتربص بي. هذا العمر الذي يَمرّ مُطعّماً بالخيبات والنضالات المفروضة فرضاً، العمر القائم على العطاء والتضحية والتحمل من دون مقابل. وتتحول قاعدة "الحياة أخذ وعطاء"، إلى "أنت أعطِ والحياة تأخذ".

التجاعيد تحفر لنفسها مكاناً للدلالة على ما مرّ، لكنّي لستُ ميريل ستريب، أطرب لتعداد إنجازاتي، ولا أنا غوينيث بالترو أتباهى بتجاربي، لذلك وحدها إبرة البوتوكس تستحق ما أنفقه عليها. هذه الإبرة ذات المفعول السحري، تخفي الخطوط الصغيرة المتسللّة لتحفر مكاناً لعمر لا أجد فيه حتى الآن ما يستحق أن يتربع بَصمةً على وجهي. وحدها هذه الإبرة الرفيعة التي تجمّد عضلات وجهي، تمنحني شعوراً بالتحكم بما يليق بي.. ولو إلى حين!  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها