بدت وسائل إعلام عبرية وكأنها كسرت حاجز الصمت، ولو تدريجياً، بشأن اختراق هواتف إسرائيليين، بنشرها وقائع تؤكد حصوله، مع ترجيح الأمن الإسرائيلي كفاعل، لكنها لم تحدد هوية الجهاز الأمني المتهم بالواقعة، ولا الأسباب التي دفعته إليها، ولم تكشف هوية الإسرائيلي المستهدف من الاختراق، إلا أنها اكتفت بوصفه ناشطاً حقوقياً وفعالاً في حركة الاحتجاج ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منذ سنوات، ويعيش داخل إسرائيل.
التوثيق الأول
وهذه هي المرة الأولى التي يحدد فيها الإعلام العبري برنامج "بيغاسوس" التجسسي الشهير كمتهم رئيسي في مراقبة إسرائيليين، بعدما استخدم في الفترة السابقة تعبيراً واحداً مفاده أن "الشاباك لديه إمكانات خاصة، يستطيع استخدامها وقت الضرورة"، في إشارة ضمنية إلى امتلاكه سلطة مراقبة إسرائيليين كلما تطلبت "الحاجة"، وبالوسيلة التي يراها مناسبة.
الجديد هو ما نشرته صحيفة "هآرتس"، مؤخراً، عن اختراق جهاز "آيفون" لشاب إسرائيلي ثلاثيني، مرتين في غضون عامين، عبر برنامج "بيغاسوس" من إنتاج شركة "إن إس أو" الإسرائيلية، وذلك بناء على تحليلين جنائيين "مستقلين" أجريا على جهازه. وهذه أول حالة مؤكدة مخبرياً لرصد البرنامج على هاتف إسرائيلي. ورغم أنّ "هآرتس" تحدثت عن عدم صعوبة تحديد الباحثين لهوية الجهة المتورطة في التجسس، إلا أنها ألمحت إلى جهاز أمني إسرائيلي.
وبحسب المعطيات، وُثّق الاختراق الأول لهاتف الإسرائيلي في نيسان/أبريل 2021 ومرة أخرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وتم تأكيد الحالة الأولى من قبل شركة أميركية متخصصة بالدفاع الإلكتروني، في حين رُصدت الحالة الثانية من قبل هيئة أبحاث الحقوق الرقمية "سيتيزن لاب". في حين رُصد نشاط تجسسي ثالث، الشهر الماضي، على هاتف الإسرائيلي ذاته، لكن عبر برنامج آخر لم تُحدد هويته لأسباب غير معلومة.
ويعتمد برنامج التجسس الاسرائيلي "بيغاسوس"، ومن بعده برنامج "كوادريم"، على استغلال ثغرات في أجيال من هواتف "أبل"، إما عبر البريد الإلكتروني أو تحميل ملفات إضافية، مروراً بتطبيقات، من دون الحاجة إلى الطريقة التقليدية المتمثلة بضغط صاحب الهاتف على روابط معينة توطئة للاختراق.
الشاباك أم الشرطة؟
لم تُقدم هيئات المراقبة على الانترنت أي إجابة بشأن هوية الجهة التي تقف خلف تتبع الإسرائيلي، لكن "هآرتس" أشارت إلى احتمالية وقوف الشرطة الإسرائيلية أو جهاز المخابرات "الشاباك" خلف التجسس على هاتف الشخص الذي تلقى إخطاراً من شركة "أبل" يحذره من شبهات بتعرض جهازه لهجوم بـ"رعاية الدولة". ومن المحتمل أن يكون المُستهدَف خاضعاً لمراقبة الأمن الإسرائيلي لأسباب متعددة، بما فيها تلك التي ليس لها علاقة بنشاطه السياسي المتمثل بمشاركته في حركة الاحتجاجات المناهضة لنتنياهو منذ سنوات. وليس واضحاً إن كان المقصود من ذلك أن "الشاباك" أراد التثبت من علاقة الناشط الإسرائيلي بجهات أجنبية.
وبحسب تقارير ذات صلة، فإن المستهدف استجُوب بسبب ما وصفته الشرطة الإسرائيلية بـ"الإخلال بالنظام العام" في كانون الثاني/يناير 2021، خلال الاحتجاجات خارج المقر الرسمي لنتنياهو، أي قبل ثلاثة أشهر من الاختراق الأول لهاتفه. واللافت أنه لم يتم اعتقاله بعد عمليات الاختراق المذكورة، ما دفع إسرائيليين إلى التساؤل عن مبرر مراقبته من الجهات الأمنية، وما إذا كان نموذجاً لإسرائيليين آخرين تُخترق هواتفهم لدوافع متعددة؟! ولم تنجح "هآرتس" في الحصول على إجابات من الشرطة الإسرائيلية على أسئلتها، بل اكتفت الأخيرة بالتأكيد أن الإسرائيلي ليس مرتبطاً بقضية جنائية أو تحقيق جارٍ، علماً أن شركة "ZECOPS" الإسرائيلية المتخصصة في الدفاع عن الهواتف الذكية كشفت حالات سابقة لإصابة هواتف إسرائيليين ببرامج تجسس.
مئات المرات خلال سنوات
رغم صمت الشرطة الإسرائيلية إزاء واقعة الاختراق، إلا أنها اعترفت باستخدام نسختها من "بيغاسوس"، المسماة "سيفان"، مئات المرات في السنوات الأخيرة، ما يعني أن نسخة "الشاباك" من البرنامج التجسسي تحمل مسمى آخر أيضاً.
من جهته، رفض "الشاباك" التعليق على قضية الاختراق واكتفى بالقول أنه "يتصرف وفقاً لأهدافه وسلطته قانوناً"، كما رفضت وزارة القضاء التطرق إلى التحقيق الإلكتروني طالما "لم يكن علنياً"، علماً أن أنظمة رصد عمليات اختراق الهواتف تقر بعدم القدرة تقنياً على تحديد جميع ضحايا الاختراقات في العالم، ما يجعل الأرقام أكبر من تلك الموثقة والمُعلنة، خصوصاً أن صانعي برامج التجسس يفاخرون بصعوبة اكتشافهم.
نقاش إعلامي حقوقي في إسرائيل
إلى ذلك، حرصت أقلام إسرائيلية على نقاش الموضوع من منظور حقوقي واحترام الخصوصية، موجهة رسائل تحذير ضمنية للأمن الإسرائيلي من مغبة تجاوز القانون في استخدام برامج التجسس كسلاح رقمي ضد الإسرائيليين، خصوصاً الصحافيين والحقوقيين والناشطين السياسيين، مشيرة إلى دول اشترت برامج التجسس من تل أبيب لاستخدامها ضد الأبرياء، عبر اختراق أجهزة مشفرة ومحمية جيداً مثل أجهزة الكومبيوتر والهواتف الذكية.
ولم تنسَ وسائل إعلام عبرية طرح تساؤلات عن احتمالية تجسس دول أجنبية على هواتف إسرائيلية عبر "بيغاسوس" الذي اشترته من تل أبيب، لكنّ الشركة المصنعة ومعها سلطات التصدير العسكرية الإسرائيلية التي تشرف عليها منذ سنوات ادّعت أن أنظمة "بيغاسوس" المصدرة إلى الخارج لا يمكنها اختراق أرقام الهواتف الإسرائيلية والأميركية.
الضحية الأولى: الفلسطينيون
ولعلّ المعهود هو استخدام الشاباك الإسرائيلي "بيغاسوس" وغيره لمراقبة الفلسطينيين. ففي العام 2021، رُصد استهداف البرنامج التجسسي لستة فلسطينيين، أربعة منهم يحملون أرقام هواتف إسرائيلية محلية، واثنان يقيمان داخل أراضي48، وهو عدد صغير على الأغلب مقارنة مع الرقم الحقيقي للضحايا الفلسطينيين من عمليات الاختراق الإسرائيلية بحق هواتفهم وحواسيبهم.
لكن التطور يكمن في تكثيف تل أبيب لاستخدام برامج التجسس بحق إسرائيليين أيضاً، في ظل تقارير عن تعاظم الحرب الرقمية بين تل أبيب وأعدائها، وما ارتبط بها من محاولات مستمرة من دول أجنبية لتجنيد إسرائيليين من خلال الإنترنت في سياق حروب الظل المستعرة بعيداً من الإعلام.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها