السبت 2023/04/22

آخر تحديث: 14:01 (بيروت)

"تحت الوصاية".. حين تضطر الدراما إلى تنكّب العبء النضالي

السبت 2023/04/22
"تحت الوصاية".. حين تضطر الدراما إلى تنكّب العبء النضالي
increase حجم الخط decrease
قبل أن يبدأ عرض مسلسل "تحت الوصاية"، تعرّض لحملة شرسة استهدفت بطلته، منى زكي، التي ظهرت في الملصق الترويجي مرتدية الحجاب بلا تجميل أو ماكياج، وبملامح متعبة، فطالتها اتهامات حادة بأنها "تساهم في تنميط المرأة المصرية المحجبة".

اعتبر متهمو زكي أن الدراما المصرية تصوّر المحجبات بشكل غير لائق، ففيها يبدونَ غير جميلات. وقد وصل الأمر بالبعض للمطالبة بمنع عرض المسلسل قبل حتى أن تُعرض أولى حلقاته، لكن كل شيء تغير بعدما بدأ العرض، فاستطاع "تحت الوصاية" قلب الموازين وخلق حالة واسعة من التعاطف في الأيام الأخيرة.

يعالج المسلسل قضية الوصاية على الأطفال بعد وفاة الأب، قانونياً واجتماعياً، حيث يركز على المصاعب التي تتعرض لها الأرملة "حنان" (منى زكي) إذ وجدت نفسها فجأة تحت رحمة أهل زوجها، الذين استغلوا قانون الوصاية، ليضعوا أيديهم على مركب للصيد كانت العائلة المكلومة تعتاش منه. 

وبعد تجارب عديدة، تكتشف "حنان" أنه لا أمل في القوانين والأعراف التي تركتها وأطفالها عرضةً للاستغلال، فتحاول أن تتمرد على قانون الوصاية، وتهرب مع أولادها وتسرق مركب الصيد الخاص بهم من الوصيّ عليهم، لتخوض تجربة العمل في وسط ذكوري ينبذ النساء، وتكافح لإيجاد حلول تمكنها من إعالة نفسها وأطفالها.

من خلال هذه الحكاية، يناقش المسلسل بذكاء قانون الوصاية ونظام "المجلس الحسبي" على النساء الأرامل وعائلاتهن، وهو نظام يمنع النساء من التصرف في أموال الزوج الراحل أو أموال الأطفال، لأنه يرى النساء غير مؤهلات لذلك، وغير مؤهلات أيضاً لتسيير المعاملات والأوراق القانونية التي تخصّ أبناءهن! 


فالقانون يعطي حق الوصاية على الأطفال، لوالد الزوج المتوفى، وفي حال توفي والد الزوج وعدم وجود ذَكَر آخر ذي قربة قريبة، تذهب الوصاية إلى الأمّ. هذا القانون موجود في مصر منذ العام 1896، وأخذ تسميات وتعديلات مختلفة، آخرها كان العام 1952. وفي ظل هذا القانون، يصوّر المسلسل معاناة الأم المصرية، التي لا تستطيع نقل أطفالها من مدرسة إلى آخرى من دون إذن الوصي الشرعي على الأولاد، ولا تستطيع كسر وديعة أطفالها في البنك لإجراء عملية جراحية عاجلة لابنها؛ فهي مضطرة دائماً لانتظار موافقة الوصي الشرعي والمجلس الحسبي. 

تكرر "حنان" الأسئلة ذاتها في مواقف متعددة: ما دور الأم؟ وما الذي تستطيع الأم فعله لأطفالها إذاً؟.. أسئلتها تفتح النقاش على العقلية الذكورية السائدة، التي ترى أن دور الأم يتوقف عند حدود الولادة والرضاعة والرعاية المنزلية. ويبدو أن الظرف الذي هيأه المسلسل فرض حالة تعاطف عامة مع الأمهات بشكل عام، والأرامل بشكل خاص، لنسمع صدى صرخات السخط على القانون في مواقع التواصل الاجتماعي، ولتبدأ مجموعة من الحقوقيين المصريين بالمطالبة بتعديلات على قانون "الوصية" الساري.

فقد قامت رانيا الجزايرلي، عضو مجلس البرلمان المصري، بتقديم اقتراح إلى رئيس البرلمان بإعادة النظر في نظام "المجلس الحسبي" بالتزامن مع عرض المسلسل؛ فالجزايرلي تأمل في أن تساعد الحالة الشعبية التي خلقها المسلسل، في تعديل هذا القانون، بعد رفض ثلاث محاولات سابقة لتعديله. كما تقدمت النائبة أميرة العادلي، عضو لجنة التعليم بمجلس النواب عن تنسيقية شباب الأحزاب، بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس النواب وموجه إلى وزير العدل، حول ملف الوصاية على المال الخاص بالقُصَّر.

"تحت الوصاية" يبين أيضاً، أن المشكلة لا تنحصر في القوانين المصرية المتحيزة ضد النساء، وإنما في عقلية المجتمع المنغلق. فحين تضطر حنان للعمل على مركب زوجها لتأمين مصاريف أطفالها، يُظهر المسلسل ما تتعرض له "حنان" من إقصاء وتهميش واستغلال من قبل مجتمع الصيادين الذي يعتبر ركوب المرأة في سفينة الصيد عاراً لا يمكن السكوت عنه! هكذا تتخفى "حنان" في كل مرة تصعد فيها إلى مركبها لقيادته.
 
وفي الأسواق أيضاً، يصوّر المسلسل كيف يرفض التجار شراء السمك من "حنان"، كونها امرأة، ويتم عرض الحجج الذكورية التي يستخدمها الصيادون لإبعاد النساء عن هذا المجال، وهي أن بنية النساء الجسدية غير قادرة على تحمل مخاطر البحر والصيد، وهي حجة تُستخدم بشكل دائم في مجالات مختلفة لإقصاء النساء وإبعادهن من سوق العمل.


لكن "تحت الوصاية" يعاني إشكالية، ربما لا تكون في حبكته بقدر ما هي في الواقع، وإن كانت لا تُلغي إيجابياته فنياً، والجرأة على طرح الفكرة. وتتمثل الإشكالية تلك في سِمات بطلة المسلسل وصِفاتها، فهي امرأة بمواصفات "الضحية المثالية" التي قد تتقبلها المجتمعات الذكورية. وتوضع هذه المرأة في ظرف إنساني قاهر، يجعل غالبية الجمهور تتعاطف معها وتوافقها في مطالبها، ليس إيماناً بحقها وضرورة تمكينها، بقدر ما ينتج التعاطف عن نوع من الشفقة.

فـ"حنان"، المرأة المحجبة الملتزمة دينياً، والفقيرة أيضاً، تقدّم صورة للأم والمرأة المسحوقة التي تضحي بنفسها لتريبة أطفالها في مجتمع أبويّ. لكنها المرأة التي ربما لم تكتمل هويتها الفردانية الخاصة في النص، ولعلها كانت مستعدة للخضوع والتقيد بقيود المجتمع الذكوري، لولا الظروف القهرية التي لم تترك لها خياراً آخر سوى التمرد. وإن كان ذلك، ربما، متّسقاً، مع طبيعة الشخصية الآتية من قاع المجتمع، بالمعنى الطبقي، كامرأة تربّت هي أيضاً على تلك "القيَم" نفسها التي صارت تناضل ضدها بعد وفاة زوجها. امرأة وأمّ، ربما ما كانت لتفكّر في حقوقها، لولا أنها احتاجت عملياً لامتلاك تلك الحقوق في صراعها وأولادها للبقاء. إلا أن السؤال قد يُطرح هنا: ماذا لو كانت "حنان" امرأة من الطبقة الوسطى مثلاً؟ موظفة أو حاملة شهادة جامعية؟ ماذا لو كانت غير محجبة؟ ما الذي كان سيتغير في هذه القصة؟ بل ما الذي يتغير في الواقع وفي تأثير المسلسل في الجمهور ودوائر صنع القرار؟
 
في إحدى الحلقات، تتوهم "حنان" أن العقدة قد حُلّت بعد وفاة والد زوجها الراحل، وأنها ستنال أخيراً الوصاية الشريعة على أولادها. فأول ما تقوم به هو التخلي عن عملها وعن كل ما حققت من إنجازات، لتعود ربة أسرة مكانها "الطبيعي" هو المنزل. مجدداً، ربما ينسجم هذا التصرف مع محددات هذه الشخصية بالذات ووعيها. لكن، حين يكون عمل درامي حاملاً لقضية كبيرة ومتشعبة، لا سيما في مجتمعاتنا المحافظة عموماً، قد تتصاعد الخشية من ترسيخ مفهوم عمل المرأة/الأمّ، كمجرد وسيلة لتأمين العَيش في الحالات الاضطرارية...

فهل المشكلة هي فقط مشكلة النص الدرامي وحصر بطولة القضية في شخصية من نمط "حنان"؟ أم أن المشكلة الأكبر هي في المجتمع ومنظوماته الدينية والثقافية والقضائية التي تجد الأعمال الإبداعية، في مواجهتها، مضطرة إلى تنكّب كل هذا العبء النضالي، بعد فشل المحاولات الفعلية، القانونية والمدنية، في تغيير واقع ظالِم؟ أسئلة تحتاج نقاشات مَزيدة..  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها