الإثنين 2023/03/06

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

سيلفي لجيلٍ بأكمله

الإثنين 2023/03/06
سيلفي لجيلٍ بأكمله
لوحة كولاج للبنانية هيبت البلعة بواب بعنوان "إرادة جيل"
increase حجم الخط decrease
أين أصبحنا؟ لا، لا! السؤال هو ماذا أصبحنا؟ فالصيرورة الداخلية أهمّ من الحيّز المكاني. أو ربما أخطئ جداً هنا! هل نستطيع أن نكون في أي مكان غير شارع الحمرا؟ في أي قارة عشنا، ستبقى في داخلنا قطعة منسية تشبه هذا الشارع بفوضاه وارتجاله وانفتاحه على المجهول. لكن هذا الشارع ليس واقعياً، لم يكن يوماً كذلك وهذا أكيد، هو فقط نتيجة حركتنا التي كانت فيه، لأحلامنا التي كانت فيه وماتت أو اكتملت، لا فرق، فهو مثل بيروت، مصنوع من موت سريع وذاكرة قصيرة، ونحن متصالحون مع ذلك. نحن أولاد شارع الحمرا غير المرئي إذاً، الشارع الموازي للشارع والمكوّن من أفكارنا عنه. مكان لم يوجد يوماً ويمكن أن نكتب عنه كتاباً طويلاً على غرار إيتالو كالفينو ومدنه المحجوبة عن العين.

لماذا أطرح هذا السؤال بصيغة الجمع في أي حال؟ مَن نحن؟ لم نعد نقرأ هذا السؤال في عصرنا الحالي، عصر مرض الأحزاب وموت النقابات وعفن الإيديولوجيات إلا في مواقع التسويق في الإنترنت التي تدّعي أصالة ما، تكتب قصة ما كي تبيع بطريقة مختلفة سلعة تجزم بأنها لمست الأيادي البشرية ولم تصنعها آلات فائقة تنتظرنا في المستقبل كي تسيطر على الكوكب وأقدارنا.

مَن نحن؟ أنتم الجيل الأخير قبل مواقع التواصل. أنتم جيل الفضائيات العربية. أنتم جيل سقوط بغداد. أنتم جيل الفشل الذريع وآخر أيام الصحوات الإسلامية. إجابات قالها لي مَن سبقونا بهجرة. فهل فعلاً نحن الجيل الذي خرج للمرة الأولى نحو الفردية؟ عارياً إلا من بضعة صور نمطية، متخففاً إلا من أحلام عجنتها الأحلام المتقيأة للجيل الذي قبلنا؟ وهل لهذا السبب نفسه انتشرنا في القارات كلها بلا شيء يجمعنا إلا هذه الابتسامة الساخرة التي تدّعي معرفة ما ورغبة خفيّة في الهرب؟

يستطيع الجيل الذي قبلنا أن يسمّي نفسه جيل الثورة. جيل رأى محمود درويش وهو يلقي قصيدته الشهيرة "مديح الظل العالي"، في حضرة ياسر عرفات الذي مازحه بـ"حضرة القائد العام والشاعر العام". بيروت محتلّة، العدوّ تحت الجلد وفي السماء ومحمود يردد "كم كنتَ وحدك" بصوته القوي الذي يفتح في الأفق أفقاً آخر. بينما البحر يفتح ذراعيه للفلسطينيّ كي يبتلعه الموج مجدداً. هل هناك عبثية أكثر من تلك اللحظة؟ يستطيع الجيل الذي سبقنا بأن يقول "ذروة الشعر العربيّ"! ويردفها بلعنة طنّانة. تستطيع أجيال أخرى سابقة أو لاحقة أن تتعرّف على ملامحها بطريقة أوضح ربما: جيل الثورة الطالبية، جيل الحرب، جيل العولمة. أما نحن فلا نستطيع إلا أن نهزّ رؤوسنا متذكرين الدموع التي انهمرت من القنابل المسيّلة أثناء المظاهرات أمام السفارات، تلك السفارات نفسها التي فتحت لنا أبوابها فيما بعد كي نحتار على أي جهة من الباب نحن؟

يقول ألبير ميمي في كتابه "بورتريه المستعمَر والمستعمِر"، بأن على جيل الثورة أن يخلق ضد-أسطورة، أن يعكس ما قاله عنه المستبدّ ويجمّله كي يعني الشيء ضدَّه. ولهذا تستعمل عبارات-إجابات في حركة الملوّنين القائمة على زنوجة إيميه سيزير وآخرها "حياة السود مهمّة" في جواب على افتراض عدم أهميتها. لكننا لسنا جيل الثورة، نحن الجيل الذي لم يعد ينظر في المرآة كي يقوم بالنقد الذاتي، إذ يكفي أن يثبّت كاميرا الهاتف كي يلتقط سيلفي سريعة: نحن الجيل الذي يعرف كيف يلتقط سيلفي، وهذا ليس تفصيلاً. أول جيل يعرف كيف يلتقط سيلفي! لقد خرجنا إلى الفردية أخيراً، حتى المكبلين منا بإيديولوجيا فضفاضة يغردون وحدهم غالباً، لأن أحداً لا يصدّقهم ولا يصدّقنا. العالم يعرف بأن ما يقوده ليست أصواتنا ولا أفكارنا عنه. ما يقوده هو التاريخ بحركته الهايدغرية من طرح وعكسه ثم خلاصة الإثنين معاً. المشكلة تكمن في تحديد نقطة الصفر. في معرفة حركة المدّ من حركة الجزر.

من جهتي، كان لا بد أن أصرخ -بطريقة لا تخلو من الرعونة- مستعيرة صوت آسيا جبّار "لا مكان لي في بيت أبي". البعض فسّر الموضوع بطريقة شخصية، وكم في هذا من ظلم لأبي الذي لم يكن يوماً ذكورياً ولا حارساً لقيم القبيلة. لم أكن أقصد أبي مصطفى الأرقّ من طفل، بل النظام الذي اسمه "أبي". النسوية بدت كإيديولوجيا جيدة للغاية، مناسبة للعصر لأنها تجمعني على الأقل بنصف البشرية. الجذور اليسارية التي فرّخت في فرنسا وبريطانيا ثم الباقي من العالم، الدعوة الشاملة ودق النفير العام، ثم الظلم التاريخي الذي لا بد أن تشعر به أي فتاة.

لكن ماذا بعد؟ ماذا بعد؟ نحن جيل لم يُخلق للإيديولوجيا ولم يعد يصدقها، فلا بد من خروج نحو ما هو أوسع أفقاً. نحو عالمية ما تفتشّ عما هو حقيقي. عن ذلك الجزء غير المحتقن من الهوية بحسب أمين معلوف. عن العدالة والجمال وعن الحب أيضاً. لكن يكفي الآن. فلنأخذ سيلفي سريعة. سيلفي لي ولكَ ولكِ: سيلفي لجيلٍ بأكمله.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب