الثلاثاء 2023/10/31

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

علاقة الصحافي بمصدره: تحديات المهنة وحماية قانونية مفقودة

الثلاثاء 2023/10/31
علاقة الصحافي بمصدره: تحديات المهنة وحماية قانونية مفقودة
تطوّر مفهوم حماية المصادر ليصبح مفهوماً حقوقياً (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يحفظ تاريخ الصحافة، أسماء صحافييّن رفضوا الخضوع لكلّ التهديدات، وسُجنوا بسبب تكتّمهم عن هوية مصادرهم. ففي العام 1974، دخل الراحل غسان تويني، صاحب صحيفة "النهار" اللبنانية، "سجن الرمل" في بيروت، بسبب عدم اعترافه بالمصدر الذي زوده بقرارات مؤتمر القمة العربي السرّية الذي عُقد في الرباط آنذاك.

وفي العام 1992، أحيل جاسم الصقر، رئيس تحرير صحيفة "القبس" الأسبق، إلى المحكمة العسكرية في الكويت بعد نشره الهيكل التنظيمي للجيش وتنقلات وتعيين ضباط وقادة في وزارة الدفاع، ولم يعترف أيضاً بالجهة التي زوّدته بهذه المعلومات.

في عالم الصحافة، يُعتبر تعامل الصحافيّين مع "المصادر" مسألة جوهرية خلال ممارسة المهنة، وشرطاً أساسياً في أخلاقياتها، لكن الضغوط الخارجية من ناحية، وافتقار الصحافي لكيفية التعاطي مع مصدره من ناحية أخرى، قد يؤثران في شفافية العمل الصحافي، وسط غياب قوانين عادلة تنظم المهنة وتحمي العاملين فيها.  

فنون الاستدلال: كيف يتحقق الصحافي من مصداقية المعلومات؟
يتطلّب التعاطي مع المصادر الصحافية، ذكاءً ووعياً وخبرةً وحذراً في آنٍ واحد، بهذه العبارة تختصر الدكتورة في الجامعة اللبنانية وفاء أبو شقرا، تحديات العلاقة بين الصحافي ومصدره. إذ يتجاهل الصحافي خلال مقابلته مع المصدر تقديم معلومات غير صالحة للنشر أو مجتزأة حول موضوع معين. وبالتالي، من الواجب على الصحافي التأكد منها، عبر أدلة ووثائق من جهات متعددة.

أما التحدي الآخر، فيكمن في أن يؤدّي تمويه المصادر إلى الانحياز أو التضليل أو ترويج الشائعات. وفي هذا الإطار، تؤكد أبو شقرا أن الأخطر في الموضوع تحولّ التمويه إلى "القاعدة" في العمل، وليس استثناءً، أو يمسي أداةً لدى البعض للتحريض وتوزيع الاتهامات تحت قناع "المصدر".

لذا، تطرقت الدكتورة في الجامعة اللبنانية إلى نصائح أساسية يجب مراعاتها أثناء العمل الصحافي، بدءاً من عدم التهاون في المعلومات التي يقدمها المصدر، إلى ضرورة تقويم جميع مصادر المعلومات ونقدها والتحقق منها مروراً بالاستعانة بمصادر أخرى لتأكيدها ووصولاً إلى استشارة الصحافي للمسؤول المباشر في مؤسسته وإعلام إدارته باسم المصدر المجهل.

استخدام مصادر

إلى جانب ذلك، تبرز مسألة كيفية تعامل الصحافي مع الضغوط الخارجية للكشف عن مصدره، مما يتطلب منه تحمل تبعات حفظ سرّية مصادره حتى لو أدّى ذلك إلى تكبده للمتاعب، على حدّ قول أبو شقرا. فحقّ حماية المصادر يُعتبَر من الحقوق الراسخة في القانون الدولي، بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وتطبيق هذا الحقّ، هو من الضمانات المهمّة لحماية الصحافييّن، بشكلٍ خاص، نظراً إلى العدد الكبير منهم الذين قُتلوا أو تعرّضوا للاعتداء الجسدي أو الذين تلقّوا تهديدات مختلفة. وبرأيها، فإنّ حق حماية المصادر يعني عدم قدرة السلطات الحاكمة، بما فيها المحاكم، على إجبار الصحافي الكشف عن مصدر معلوماته.

وفي سياق متصل، يشير مسؤول التواصل في "مؤسسة سمير قصير" جاد شحرور إلى البرنامج القانوني العالمي (Whistleblower protection) المعني بحماية الصحافيين ومصادرهم عند الكشف عن عمليات خطرة. ويتابع أنّه في لبنان، هناك ازدواجية في المعايير والضوابط العدلية، وخير مثال على ذلك، استدعاء الصحافيين العاملين في ملفات كشف الفساد بتهم القدح والذم لتعرضهم لجهة سياسية، بدلاً من الملاحقة القانونية للتأكد من صحة معلوماتهم.

ولا تقف حماية الصحافي للمصدر فقط عند عدم ذكر اسمه، بل تتعداه إلى منع نشر أي معلومة أو رسالة صوتية، طلب المصدر أثناء المقابلة أنّ تكون "Off the record". وفي حال نشرها، يكون الصحافي قد خالف المعايير المهنية.

ويُذكّر شحرور بحادثة تسريب صحافي فرنسي لمعلومة "Off the record"، تزعم أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد وبخ خلال زيارته إلى لبنان منذ 3 سنوات، نواباً من "حزب الله". وقد أثار ذلك ضجةً إعلامية آنذاك. لكن ماكرون عند لقائه بمسرّب المعلومة وجه له إهانة بعدم إحترام السرية. 

المصدر المجهول: كيف يحمي الصحافي حقوقه ومعلوماته؟
منذ عقود، تطوّر مفهوم حماية المصادر ليصبح مفهوماً حقوقياً، بحيث بات القانون يحمي الصحافيين من أيّ ملاحقة، كما يصون حقّهم بعدم الكشف عن مصدرهم، أو اسم مَن سرّب لهم المعلومة. وبرأي الناشط الحقوقي الدكتور جاد طعمه أنّ لبنان يفتقر الى وجود تشريع يحمي سرية المصادر الصحافية، موضحاً أنّه من بين كل مشاريع الإعلام المقترحة لم يتم التطرق الى هذا التفصيل المهم.

وبالتالي، شدد طعمه على وجوب معالجة هذه الثغرات التشريعية من قبل لجنة الإعلام أو عبر الهيئة العامة في مجلس النواب.

وفي السياق ذاته، تطرق المستشار القانوني لمؤسسة "مهارات" المحامي طوني مخايل، إلى مقترح اليونيسكو الذي تضمن بنداً يتعلق بحماية المصادر، وينص على التالي: "لا يجوز الطلب من الشخص الإعلامي أن يكشف عن هويّة أي شخص ثالث قام بتزويده بالمعلومات تحت شرط الحفاظ على السريّة". وعلى الرغم من ذلك، يرى مخايل أنّ النص المقترح المتعلق بحماية مصادر معلومات الصحافيين غير كاف بحد ذاته لتأمين الحماية الكافية، ما لم يكن مقروناً بنصوص أخرى تتعلق بحماية البيانات التي بحوزة الصحافي او المؤسسة الإعلامية وأماكن عمل الصحافيين من أعمال التنصت والتفتيش ومصادرة الهواتف والمعدات الخاصة بعملهم.

مصادر مجهولة

أما على المستوى الدولي، فيشير طعمه إلى وجود فرق بين الحق في حرية الرأي والتعبير وحق عدم الإفصاح عن هوية المصدر، مستنداً إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، في قضية جدوين العام 1996 في قرارها المبدئي، حيث تعتبر أنّ حماية المصادر الصحافية من الشروط الأساسية لحرية الصحافة. وعليه، التزمت المحاكم الأميركية والأفريقية الناظرة بمسائل حقوق الإنسان الضامنة للحق في حرية الرأي والتعبير هذا النهج.

كما أكد "إعلان مبادئ عالمي لممارسة مهنة الصحافة" من قبل الاتحاد الدولي للصحافيين على تمسك الصحافي بسرية مصادر معلوماته وعدم كشف المصدر، وإدراك مخاطر عدم احترام مبدأ عدم التمييز. في حين عززت المعاهدات الإقليمية لحقوق الإنسان، الحق في خصوصية الصحافي وسرية مصدره عبر المادة 21 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004، نصت على أنه: "لا يجوز تعريض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني للتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته أو التشهير بمس شرفه أو سمعته".

بينما استندت المبادئ التوجيهية الصادرة عن لجنة وزراء مجلس أوروبا بشأن حماية حرية التعبير والمعلومات في أوقات الأزمات، إلى المبدأ 7 تحت عنوان الحماية من تجريم الذات: "ينبغي أن تحمي القوانين أي شخص طبيعي أو قانوني يشارك على نحو منتظم أو في نطاق مهنته في جمع معلومات ونشرها لدى الجمهور من خلال وسائل الاتصالات الجماعية. وينبغي أن يتمتع الصحافيون بها، فيما يتعلق بكشف المعلومات التي تتيح معرفة المصدر". كما أوصت التوصية R (7/2000)  من المبادئ التوجيهية الصادرة عن مجلس أوروبا في عام 2007: "بألا تطلب أجهزة إنفاذ القانون من الإعلاميين تسليم معلومات أو مواد جمعت في سياق تغطية الأزمات".

وعليه، لفت طعمه الانتباه إلى أهمية الاستفادة من اجتهادات المحاكم الدولية في هذا المجال لصيانة العمل الصحافي وحرية التعبير عبر ضمان أحد أركانه الأساسية المتمثلة بحماية المصادر الصحافية من الملاحقات.

وفي ما يتعلق باستجواب القاضي للصحافي حول مصدر معلوماته، فيقول طعمه إنّه يجب التمييز بين حالتين، الأولى أنّ يكون الصحافي مدعىً عليه، حينها يحق له قانوناً التزام الصمت سواء أمام الضابطة العدلية او أمام القضاء، أما في حالة استدعائه كشاهد حينها يكون واجباً عليه كشف هوية المصدر وإلا يلاحق بجرم كتم المعلومات.

بينما الواقع في القانون الحالي، يلزم الصحافي بالكشف عن مصادره، وإلا يستطيعه توقيفه أو سجنه. وفي أغلب الأحيان، لا يتم استدعائه من قبل محكمة المطبوعات أو محاكمته فيها. 

تكنولوجياً: كيف يحارب الصحافي الاختراقات والتسريبات الرقمية؟
وبين التعامل المهني والقانوني مع المصدر، يتناسى كثر أهمية أمن الصحافي لمصادره الرقمية. ففي عالم افتراضي مليء بالقرصنة والاختراقات لأغراض متعددة، يتوجب على الصحافي أمن مصادره الرقمية والتعامل معها بحذر. 

من هنا، تقدم سمر هلال، مسؤولة وحدة التكنولوجيا في مؤسسة SMEX، مجموعة من الخطوات الفورية التي يجب على الصحافي اتخاذها عند تعرض مصادره لاختراق أمني، وهي: العزل والفصل الفوري، وتغيير جميع كلمات المرور، وتبليغ الجهات المعنية. وبعد ذلك، عليه استعادة النسخ الاحتياطيّة وتقدير الأضرار وتحديد البيانات المتأثرة، وفحص الأجهزة والبرمجيات، والتعاون مع فرق الأمان. 

بيانات حساسة
من جهة أخرى، تلعب تقنيات حديثة دوراً في تعزيز الأمان والسرية لدى الصحافيين ومصادرهم، عبر الكشف عن البرمجيات الضارة والاختراق والرصد الأمني، كما تساهم في تحليل البيانات وتصفية المعلومات والتعامل مع رسائل البريد الإلكتروني المشبوهة.

كما تطرقت هلال إلى أدوات تستخدم للحفاظ على سرية مصدر الصحافي كـ"Thunderbird" ، وهي خدمة بريد إلكتروني مشفرة توفر حماية إضافية للمراسلات، وأدوات التحقق الثنائي مثل "Google Authenticator"، وأدوات إدارة كلمات المرور على غرار "Bit warden" لتخزين وتوليد كلمات مرور آمنة. إلى جانب أدوات تشفير الملفات والمجلدات على مستوى القرص مثل "VeraCrypt"والشبكات الافتراضية الخاصة كـ"Proton VPN"، وأدوات التشفير والمحادثات الآمنة مثل "Signal".

بناءً على ما تقدم، عند تعاون الصحافي مع مصدر مجهول، عليه، اتباع القواعد المهنية والقانونية والأمنية الرقمية، لحماية نفسه ومصدره، من المساءلة القانونية، حتى إشعار آخر. 
_____________
(*) ينشر هذا التقرير ضمن برنامج زمالة مشروع "إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان"، الذي تنفذه مؤسسة "مهارات" بدعم من الاتحاد الاوروبي. هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الاوروبي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها