الجمعة 2022/09/30

آخر تحديث: 17:26 (بيروت)

"هنا لندن": لغة وحكاية لتاريخ العرب...وداعاً "بي بي سي"

الجمعة 2022/09/30
"هنا لندن": لغة وحكاية لتاريخ العرب...وداعاً "بي بي سي"
من أرشيف استديوهات الإذاعة التي انحازت إلى "عربية المثقفين" فأحدثت جدلاً لغوياً!
increase حجم الخط decrease
بعد 84 عاماً من البث سيتوقف بث إذاعة "بي بي سي العربية" ولن يسمع الجمهور عبارة "هنا لندن" التي كانت تفتح النشرات الأخبارية والبرامج وغيرها.

إنها نهاية حقبة فعلاً، لكن الخطوة نفسها قد تبدو متأخرة لأن الراديو نفسه تراجع منذ سنوات كثيرة بسبب الإنترنت وتحول الإذاعات إلى نمط جديد من البث والعمل الإعلامي، بما في ذلك البودكاست الذي يجذب ملايين المتابعين لا سيما من الفئات الشابة حول العالم.

ومنذ العام 1938 عندما افتتح المذيع المصري أحمد كمال سرور، أول نشرة أخبار عبر الإذاعة الشهيرة بالعبارة "هنا لندن سيداتي وسادتي"، تحولت العبارة إلى افتتاحية شهيرة تتكرر مع دقات ساعة "بيغ بين" التاريخية عند تمام كل ساعة. وكانت الإذاعة التي تبث من لندن عبر السنوات بديلاً للأخبار التي تبث الدعاية والخطاب الرسميَين وتمارس التغييب الإعلامي، لملايين المستمعين العرب.

وفي ذلك البث الأول قال سرور الذي تحول نجماً إعلامياً في سنوات الأربعينيات: "يسرنا أن نخاطب المستمعين في الشرق الأدنى بلسانهم العربي"، وبدت خلال البث استديوهات "بي بي سي عربي" بأجهزتها القديمة، كما يظهر في مقطع فيديو من الأرشيف. وأصبح ذلك النموذج مع مرور السنوات شائعاً عبر إنشاء إذاعات وقنوات تلفزيونية تبث بالعربية من دول غربية لنشر قيم الديموقراطية من جهة وتقديم خطاب ثقافي أشمل يتم تغييبه وتهميشه في دول المنطقة، فظهرت تباعاً وسائل إعلام مثل راديو "مونتي كارلو" الفرنسي و"راديو سوا" الأميركي، وغيرها.


وبحسب "بي بي سي" نفسها، فإن إطلاق الإذاعة كان مرتبطاً بصراعات سياسية حينها، وأتى كردّ مباشر على إطلاق إيطاليا الفاشية إذاعة "راديو باري" الموجهة للعالم العربي العام 1934 وكان يبث موسيقى شعبية ودعاية للأفكار الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية. وكان المسؤولون البريطانيون في البداية غير منزعجين إلى حد كبير من تلك الإذاعة، لكن منذ العام 1935 أصبح إنتاج "راديو باري" معادياً بشكل صريح لبريطانيا التي تواجدت في الشرق الأوسط وتفرض انتداباً على دول مثل مصر وفلسطين، ومن ثم بات المسؤولون البريطانيون قلقين وبدأوا في مناقشة كيف يجب أن ترد لندن على ذلك.

ولم تكن إدارة "بي بي سي" متحمسة للتوسع، وكشفت وثيقة من وثائق الهيئة التي تعود لذلك الوقت أن مدير عام الهيئة آنذاك، اللورد ريث، قال: "إن إدخال لغات أجنبية إلى الإذاعة سيؤدي لا محالة إلى الإضرار بها". وفي النهاية وافقت "بي بي سي" على بث إذاعة عربية شريطة أن تتمتع بالاستقلال عن وزارة الخارجية البريطانية شأنها في ذلك شأن باقي أقسام "بي بي سي" التي كانت موجودة في تلك الفترة.

هذا الحديث يبدو غريباً اليوم لأن "بي بي سي" تبث بعشرات اللغات وتقدم الأخبار التي لطالما اعتُبرت موثوقة في عصر الأخبار الكاذبة، وتحارب قيم الدكتاتورية المنتشرة بما يعرضها لعقوبات مختلفة من دول مثل روسيا على سبيل المثال.



ومنذ العام 1937 بدأت مناقشات تفصيلية حول الشكل الذي يجب أن تأخذه المحطة، بالإضافة إلى القضايا المتعلقة بالمحتوى، وأين يجب أن يكون المقر. وكان المسؤولون البريطانيون قلقين بشأن طبيعة اللغة العربية التي يجب استخدامها في برامج البث، فقد كان هناك وعي عميق بأنه من أجل أن يتم فهم البث المقترح على نطاق واسع، مع تعدد اللهجات في المنطقة، يجب اعتماد العربية الفصحى التي تشكل تحدياً متمثلاً في نسبة عدم المتعلمين مثلاً.


(فيصل الثاني ملك العراق يسجل العام 1951 لقاء بثته بي بي سي بمناسبة
عيد ميلاده الـ16. وكان الملك فيصل طالبا في مدرسة هارو آنذاك)

وتظهر الوثائق جدالاً حول اللهجات المقترحة مثل العربية النجدية لأنها الأفضل في الجزيرة العربية، أو العربية الفصحى على الطريقة المصرية بشكل مشابه لـ"إذاعة القاهرة" ذائعة الصيت حينها، ما جعل الخيار يقع على أحمد كمال سرور لافتتاح البث.

في ذلك الوقت أنشأت بريطانيا بالفعل إذاعة عربية محلية تابعة لسلطة الانتداب على فلسطين، ولهذا استخدمت تلك الإذاعة ما تشير إليه اللجنة المعينة من مجلس الوزراء حول البث العربي باعتباره نحوياً فلسطينياً. وأقرت هذه اللجنة أنه بالرغم من أن اختيار نوع اللهجة العربية المفترض استخدامها في الإذاعة ينطوي على صعوبات أكيدة، إلا أن ذلك لا يعني أن الأمر غير ممكن. ومن خلال تعليقات بناءة حول الأسلوب وطريقة النطق، تمت صياغة رؤية مفادها أنه: "يمكن تطوير نوع من اللغة تدريجياً يكون مستساغاً لشريحة واسعة من المستمعين الناطقين بالعربية".

ويعد ذلك وصفاً موجزاً ليقرب للذهن نوعاً من اللغة العربية ظهر خلال القرن العشرين، وعادة ما يشار إليه حالياً بما يسمى بـ"عربية المثقفين" أو "العربية الرسمية"، وهي نسخة مخففة من العربية الفصحى الثقيلة، كما قد يكون لتلك اللغة الإذاعية أثر في انتشار "اللهجة البيضاء" لاحقاً، وهي نوع من اللهجات التي يستخدمها العرب من دول مختلفة بالاستناد للفصحى، من أجل فهم بعضهم البعض بعيداً من تعقيدات اللهجات المحلية التي قد تكون مستحيلة الفهم أحياناً، كما أن تلك اللهجة حضرت لعقود وبتواتر متزايد في الأفلام والسينما والتلفزيون والأغاني.

وفي أيلول/سبتمبر 1938 أصدرت "بي بي سي" تقريراً سرياً يفيد بوجود استحسان جماعي لصيغة اللغة العربية المستخدمة، وجودة تقديم البرامج فيها، وجاء فيه: "كان هناك تفضيل للإذاعة مقارنة بأداء بقية الإذاعات الأجنبية الناطقة بالعربية"، لكن كثيراً من الأكاديميين الأوروبيين هاجموا النمط اللغوي الجديد، ومنهم جايمس هيوارث دن، أستاذ اللغة العربية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية، حيث هاجم أسلوب المذيعين، وقال أن اللغة العربية الأدبية الحديثة "لغة مصطنعة ومقتبسة من الكتب" لا تتوافق مع المعايير الثابتة عالمياً، وهو جدل يستمر حتى اليوم في الواقع.


(بي بي سي تحاور محمود يونس رئيس فريق المبارزة المصري
المشارك في أولمبياد لندن العام 1948)

وفي أول بث اذاعي لها للعالم العربي جاء الخبر الثالث في نشرة الأخبار كما يلي: "فلسطين .. نُفّذ حكم الإعدام شنقاً في عربي آخر من عرب فلسطين". وأعربت الخارجية البريطانية عن استيائها من ذلك الخبر، وكتب أحد كبار المسؤولين فيها: "هل يجب على بي بي سي أن تذيع خبر إعدام كل عربي في فلسطين؟"، كما شكا آخر من أن التوجه العام لمسؤولي الإذاعة يتناقض مع أفكار وزارة الخارجية، لكن رئيس هيئة الإذاعة البريطانية حينها جيه بي كلارك رد قائلاً: "إن عدم التطرق إلى الحقائق الإخبارية غير المرحب بها وما يتبعها من إخفاء للحقيقة، يتعارض مع سياسة الهيئة". وبهذه الجملة ثبتت "بي بي سي" سمعتها كإذاعة تتمتع بالمصداقية والدقة والحيادية والاستقلالية وهو ما ظلت تحافظ عليه بعد عقود على مرور تلك اللحظة.



وبدأت الإذاعة بثها إلى جانب الخدمة الإنجليزية التي انطلقت العام 1932، من مبنى بورتلاند بليس قرب محطة أوكسفورد سيركس لمترو الأنفاق وسط لندن، لكن ذلك لم يستمر لفترة طويلة، بسبب تعرض المبنى للقصف الألماني العام 1940 خلال الحرب العالمية الثانية لتنتقل الخدمة العالمية لـ"بي بي سي"، والتي شملت آنذاك الخدمتين الإنجليزية والعربية وبرامج باللغات الألمانية والإيطالية والفرنسية، إلى مبنى "بوش هاوس".

ومنذ ذلك الحين وعلى مدى أكثر من 70 عاماً ارتبطت إذاعة "بي بي سي عربي" ببوش هاوس الذي غادرته العام 2012 إلى مبنى جديد ملاصق لمبنى بورتلاند بليس، ويحمل اسم برود كاستينغ هاوس. ويقع بوش هاوس في نهاية شارع كينغز واي بمنطقة أولدويتش وقد بنته شركة تجارية أميركية على النمط الأميركي في أوائل العشرينيات من القرن الماضي ليكون مركزاً تجارياً وافتتح في عيد الاستقلال الأميركي في 4 تموز/يوليو العام 1925. وفي العشرينيات من القرن الماضي كان بوش هاوس أغلى بناء في العالم حيث بلغت كلفة بنائه 10 ملايين دولار.


الأمير فهد بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي، في زيارة لمقر بي بي سي العربية
في بوش هاوس العام 1964، ويظهر في يسار الصورة الإذاعي حسن الكرمي)


وتطورت مسيرة البث الإذاعي على مدى عقود، ففي بداية بثها كانت الإذاعة تبث لمدة ساعة واحدة يتم فيها إذاعة "مقطوعات موسيقية وأحاديث مشوقة" بحسب أول مذيع في القسم العربي، وموجز لأخبار العالم اليومية. ثم زادت ساعات البث على مدار السنوات التالية حتى وصلت إلى تسع ساعات. وعندما بدأت حرب الخليج الأولى العام 1990 اتخذ قرار بزيادة عدد ساعات البث لتصل إلى 18 ساعة، وأصبحت حرب الخليج الثانية العام 2003 علامة أخرى مميزة وفارقة في تاريخ الإذاعة عندما زادت ساعات البث مرة أخرى لتصل إلى 24 ساعة يومياً.

وارتبطت "بي بي سي" في أذهان المستمعين في العالم العربي بتعلم اللغة الإنجليزية. حيث قدمت الإذاعة برامج تعليم اللغة الإنجليزية، سواء عبر الأثير أو في وقت لاحق، على موقعها عبر الإنترنت. وتعكس أعداد المستمعين المرتفعة للإذاعة التقدير العالمي الذي تتمتع به، حيث يزيد عدد المستمعين إليها على 13 مليون شخص أسبوعياً حسب استطلاعات الرأي المستقلة مطلع العام الجاري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها