الإثنين 2022/09/12

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

15 دقيقة بعد صباح الخير

الإثنين 2022/09/12
15 دقيقة بعد صباح الخير
increase حجم الخط decrease
كان نهارًا رائقًا ككل يوم. في موعد غير محدد، وإنما استجابة لاكتفاء الجسد من النوم وأجراس العادة، أنهض من سريري برشاقة سيدات الأفلام وبكسلهن البطيء الشهي، حين تمقل الشمس بملء عينها الغرفة من خلف الستائر، وتوشك العصافير على الانتهاء من ترنيمة الصباح... أو أنني أبدو أقل إرهافًا لسمعي مع ابتداء ضجيج المدينة بالنمو رويدًا رويدًا، ليتشتت سمعي في الأنحاء، وأصوات الطفولة في الحي تنطلق بفوضويتها المعتادة، والسيارات تطلق أبواقها متفرقة من بعيد.

أفتح الستائر، أقف أمام المرآة، أُهذّب شعري وأطمئن إلى أن وجهي في وضع مقبول واعتيادي ولا شيء يُثير الذعر أو الفرح. وجه عادي ليوم عادي، وإحساس غير كئيب ولا فَرِح، وإنما في نقطة الوسط حيث لن يذهب قلبك في اتجاه مغاير يمينًا أو يسارًا. ببساطة هو يومك حين لا تفرح ولا تحزن، لا تقلق ولا تطمئن ولا تنتظر، إنما تسير برتابة كنجمٍ في مساره وكنحلة في خليتها وكنملة في سربها.

يسير الصباح بخفة في طريقه اليومي وأنا أعد قهوتي الصباحية، إلى أن تُقرر رسالة أحدهم أن تطرق باب هاتفي الشخصي الذي تعلوه غبار التحف القديمة لفرط ما هو ساكن:
"صباح الخير…"

أسترق النظر إلى شاشة الهاتف مع وخزة الترقب الداخلي والتأمل الخفي لدى سماع الإشعار. أقرأ، ابتسم للوهلة الأولى. هكذا تبدو القهوة أكثر عبقاً وفوحًا، وأوقر في الفؤاد وأشهى في القلب وأقرب إلى المُدام في السُّكر وإلى الموسيقى في الطرب. الآن للقهوة حكاية، كما ينبغي لها أن تكون، حكاية وكوب قهوة. عليَّ أن أخطف قهوتي وأسير متعجلة إلى مجلسي، كمن يخاف أن يتسرب منه الشعور وتهرب منه لحظته، لأفكر في: صباح الخير!

أغلق الباب وأجلس في زاوية سريري. تلك نقطة تسمح لي بأن أسبح في داخلي على نحو أعمق. بوسعي أن أنفصل عن المكان والزمان وأن أمنح اللحظة حقها كاملًا، وفوقه حبَّة مسك. أمسك بهاتفي وأفكر: هل أرد سريعًا؟ أم أمهل الوقت في الانتظار؟ هل أسمح لهذه الشمس المؤقتة أن تمر على قلبي بهدوء؟ أم أغزل كل ما يمكنني من خيوط عنكبوت على شرفات القلب؟

إن أجبتُ بصباح الخير مباشرةً وبتهلل، سأفتح طريقًا للتفاعل الانسيابي الحُر بيننا. عليَّ ربما أن أهمل الرد حتى المساء، فيبرد الآخر، وحين أُجيب يكون أوشك على أن يكرهني.. فيكون ردّه باردًا إن رَدّ أصلًا.

طيب لمَ لا أفتح طريقًا للتفاعل الحُر بيننا؟ إن كان وقتنا يسمحُ لنا بالتحدثِ كل يوم صباحًا قبل أن ينسرق أحدنا إلى عالمه، لمَ لا أعدنا غريبين التقيا في حافلة الصباح وأفضيا لبعضهما بالأسرار ثم انفصلا من دون أن يتبادلا الأرقام أو العناوين، هي تلك اللقاءات التي تخلق لك اللحظة وتمضي كسحابة تظللك لبرهة ثم تمضي.

وإن كنا نتحدث في المساء والصباح وفي منتصف النهار، الأحاديث المسروقة على عجل من ملل النهار، تلك التي تعدنا بأحاديث مطولة وشائقة حين تسنح الفرصة، لنعدنا أيضًا أننا رفيقا طريق التقيا لبرهة في رحلة طويلة قليلًا، صنعا الذكريات معًا، ثم جاء وقتُ الرحيل، فتبادلا السلام ومضيا كلٌ في طريقه. وكلنا في هذه الحياة غريب يلتقي بغريب، نتعارف إلى أن يحين وقت عودتنا غرباء كما كنا، نتألم ونقاوم، لكن شيئاً ما أقوى منا يجعل أكثر النهايات متشابهة، ليس بوسعها أن تكون محايدة ورقيقة أو كحلم مشتهى، وإلا فإنها لن تكون نهاية حقيقية… ما لم تمنعنا من أن نغز الخطى عائدين لإعادة المشهد.

يُخيَّل إلي للحظة أن الكثير من آلامنا، نحن البشر، مردّها عطبُ في خيالنا الشخصي، ولو أننا أفسحنا للخيال قليلًا أو حتى لنظرتنا العلوية للأمور، لكنا رأيناها على نحو مختلف.. ربما قليلًا كما تشتهي أنفسنا لها أن تكون، كجزء من لوحة فنية بهيجة أو حزينة، بيد أنها فاتنة على أي حال، هي حياتنا.

يمرُ بائع الحليب في الجوار مناديًا: "حليب جبنة صلي على محمد". أكاد لا أسمعه سوى كطيف صوت. لعل أقول "صباح النور.. سُعدت صباحًا"، متهللةً بسجية القلب حالًا.. فما الذي أخشاه؟

أن أعتاد..
أعتاد أن تُلقى عليَّ تحية الصباح، أن تُصبح لشمسي وجهة أخرى تُشرق منها. ألا تكفي رشفة الشاي حين تلمس أعماقي، لأدرك أن هذا هو الصباح؟ وألا تفتحُ الحسناء ستائرها للصباح، وألا تغادر سريرها ببطءِ النساء الواثقات بفتنتهن وسحرهن؟ أن يمتد الظلام ويتشعب لخلل بسيط في ترتيب الصباح؟ أن يغيب الضوء من وجهي ويغدو عتمة ناطقة لأن "صباح الخير" ضلت طريقها إليَّ لسبب ما؟

حسنًا فيلكُن الاعتياد..
فما المشكلة في أن تُدمن التدخين لفترة ثم تُقلع عنه بوصفةٍ طبية، تعاني معها بعض الاضطرابات وسوء المزاج، ثم تسير إلى عهدك الأول بذاكرة مُحدثة وبقلب أعاد العالم تهيئته من جديد وبعض الشجون والزفرات والحسرات. وإن سُئلت لماذا أقع في شرك التدخين إن كان بوسعي أن أمتنع عنه من الأساس؟.. هذه 60 عامًا تقريبًا.. فما نحن فاعلون بها؟ إن لم نسمح لأنفسنا ببعض النزق!

هناك شيءٌ آخر..
سيكونُ لدي الكثير من المتطلبات. نعم إنني متطلبة جدًا، ولن يُلبي الآخر نصفها حتى، ساتألم يوميًا من الفارق بين ما أحتاجه وما هو مُتاح لي، ستتسع الهوة لتخلق صيغة مرعبة للوحدة في حضور الآخر. سأنفعل كعادتي وأغضب وأحطم شيئاً قبالتي، سأقول كل ما في قلبي وأمضي ثم أعود لأعتذر. ستتكرر نوبات انفعالي الغاضبة، إلى أن أضيق ذرعًا بنفسي وبالآخر، وتصبح وحدتي القديمة الهادئة هي حُلمي المُشتهى، وسأُلقي على نفسي كميات هائلة من اللوم "كان مالي مَا كنت فحالي، متهني بقلبي الخالي".

تنادي أمي… "نعم آتية"، بصوت لا يكاد يُسمع.

هل أخاف من الألم؟
إلى متى نخشى الألم كالأطفال، رغم أننا تلقينا من الألم ما يكفي لجعلنا كبارًا؟ لكن هذا النزق الباكي عند تلقي حقنة عارضة أو خلع ضرس بسيط، ما زال معنا من إرث الطفولة، يكبر كل يوم، يعيق خطواتنا، تصورنا المبالغ فيه عن الألم المتوقع، في حين أننا لو سمحنا لأنفسنا، سنجد أننا قادرون على المواجهة والتخطي وإعادة الخلق والبعث من العدم ومن قاع الألم. جربت ذلك حين أجريت لي جراحة مرتين. في المرة الثانية، لم يكن قلقي سوى قطرة في بحر الأولى، لأنني كنت أعرف تمامًا ما أنا في صدده. وحين نختبر الألم لمرات، سنكون على دراية واقعية بماهيته، سنكف عن المبالغة في البكاء كالأطفال في طابور التطعيم أو التفكير في الهرب!

إن بداية البدايات هو سير بخطى حثيثة نحو النهايات.. وهي إشعار انتهاء هذه الحيرة وصك براءة من الندم الآتي والزمن المهدور في اللاشيء.

تمتد اليد بحركتها العفوية إلى القهوة، تدفع الفنجان إلى موضع الشرب بالقرب من شفتيَّ، لأجد ما تبقى مختلطًا بتفل القهوة، أي أني تجاوزت الحد من الوقت وأفسدت اللحظة.. يوشك فنجان القهوة على النفاد. صباح النور!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها