هذا الخيال الخصب ليس جهداً عبقرياً يستوجب الثناء مثلما يتوهم أصحابه، كما أنه ليس مسلياً من ناحية روائية/أدبية على سبيل المثال، بل هو تكثيف للدعاية الرسمية الرديئة وتكرار لأوهام النظام السوري الذي يرى نفسه جزءاً من محور عالمي مقاوم للديموقراطية الغربية بوصفها "سلعة معولمة"، رغم كونه في الواقع أصغر شأناً من أن يتحدث عن نفسه حتى طالما هو تحت وصاية الحلفاء الإيرانيين والروس منذ سنوات إلى جانب تحوله بعد الثورة السورية من دولة ذات هيكلية، مهما كانت مهترئة، إلى نموذج آخر من حكم العصابات الصريح.
ومع اختلاط المفاهيم تصبح الشاشات الرسمية السورية شديدة السوريالية، مع توالي المحللين وأعضاء مجلس الشعب والمذيعين وهم يكررون عبارات تحقر الرئيس الأوكراني "النازي اليهودي" فولوديمير زيلينسكي بوصفه "مهرجاً"، ويستنكرون كل من يصوره مقاوماً وصامداً طالما هو "يختبئ في الأقبية تحت الأرض"، وكأن الحديث يجري عن زعيم حزب الله حسن نصر الله مثلاً، مع التأكيد بأن الصمود كلمة لا تليق سوى بشخص كالأسد الذي تحدى المؤامرة الكونية طوال عشر سنوات وعلم العالم معنى الصمود، وبات اليوم أحد قادة معركة الإنسانية ضد الليبرالية الحديثة والقيم الغربية المنحلة.
ومنذ بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا كان هنالك إصرار على تقديم الأسد كلاعب على الساحة العالمية. ونشر إعلاميون موالون مثل مراسلة التلفزيون السوري في حلب كنانة علوش منشورات في مواقع التواصل الاجتماعي تقول أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أتى إلى سوريا قبل بدء العملية العسكرية في أوكرانيا لاستشارة الأسد شخصياً لأن "العلاقة التحالفية بين الأسد وبوتين تجاوزت بكثير حدود الجغرافيا السورية ومحاربة الإرهاب إلى تحالف يقوم على معادلة تأخذ في أساسها الصراع العالمي بين معسكرين دوليين". وبلغ الأمر حد التهريج مع عضو مجلس الشعب خالد العبود الذي قال في لقاء تلفزيوني أن الأسد أرسل رسالة إلى بوتين مفادها "اتكلوا على الله .. روحوا" في إشارة إلى مباركة الأسد للعملية العسكرية على طريقة عنتريات "باب الحارة".
وبتجاوز هذه الأكاذيب التي لا يستطيع حتى الموالون أنفسهم تصديقها عن رئيسهم المفدى، فإن عنترية "باب الحارة" تتوسع لتشمل التغطية ككل، وكأن النظام السوري فتح معركة حقيقية طال انتظارها منذ نهاية الحرب الباردة مع "الشيطان الأكبر" في واشنطن مباشرة أو بات يرد على الهجمات الإسرائيلية المتكررة عليه أو حرر الجولان. ومع غياب أي حس إنساني من النظام المتسبب بواحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، تجاه المدنيين الأوكران، فإن الإعلام الرسمي تفنن في تقديم الشماتة بالأوروبيين تحديداً من منطلق أن "الولايات المتحدة تخلت عن أوروبا العاجزة التي سترتفع فيها الأسعار وينقطع فيها الوقود وتعم فيها الفوضى قبل أن تعود لرشدها بالانضمام إلى الحلف الروسي ضد الغطرسة الغربية".
وليس من الغريب بالتالي أن يصل أحد المحللين على قناة "الإخبارية السورية" الرسمية في معرض الحديث المتكرر في إعلام النظام السوري عن العجز الأوروبي ونهاية القطب الواحد ومساعدة الدولة السورية لحلفائها في الانتصار على المؤامرة الكونية أخيراً، إلى خلاصة تقول أن "التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا يشبه الصفعة التي ضربه سيدنا حمزة لسيد الكفار أبو جهل على أستار الكعبة وقال له ردها لي ان استطعت".
ولعل الأفجع هو تقديم أوكرانيا كدولة نازية ويهودية في آن معاً. وعرض برنامج "خيوط العنكبوت" المتخصص في تحليل الدعاية الغربية وكشف المؤامرات الخفية التي تجري خلف الكواليس، حلقة عن تاريخ العلاقات الإسرائيلية الأوكرانية وعلاقة تل أبيب بالنازية الجديدة في كييف. ولا يتعلق الأمر هنا بإنكار الهولوكوست الروتيني في الإعلام السوري بل يتعلق بتقديم إطار ثقافي للحرب الحالية على أنها حرب قوى الخير ضد تحالف قوى الشر. والهدف ليس تبرير تلك الحرب البعيدة أمام الجمهور المحلي الجائع والفقير والمنهك من الأزمات الاقتصادية، بل تقديم ذلك البؤس على أنه الثمن الذي يجب أن يدفعه الطيبون من أجل الانتصار النهائي. ومع ربط الحرب الأوكرانية بالمؤامرة المزعومة على الدولة السورية، يتم تمرير المبررات التي تعطي الشرعية للنظام على أساس يومي.
والحال أن تيارات اليمين المتطرف في أوروبا وحركات النازية الجديدة، لا تخفي علاقتها مع الكرملين وحلفائه. وفيما يخص سوريا، زار أعضاء من حزب "البديل" الألماني المتطرف، على سبيل المثال، العاصمة دمشق أكثر من مرة، كما رفع النازيون الجدد باستمرار شعارات حيوا فيها الأسد وبوتين، كما
كان الحال في تشارلوتسفيل الأميركية العام 2017. وفي هذا المشهد يشكل الأسد تحديداً الحليف المدافع عن العالم النازي "النقي" ومقاتلاً ضد "الإرهاب الإسلامي" الذي يعتبر السبب في التطرف وأزمة اللجوء، إلى جانب اعتناقه نفس الخطاب الأيديولوجي الذي يقوم عليها اليمين المتطرف، المتمثل بفكرة إحياء العالم القديم الذي يقسم الكوكب إلى مناطق جغرافية يسكن في كل منها أعراق وأديان مختلفة، وتشكل فيها الدول التقليدية حراساً للبوابات أمام الغرباء.
يحضر ذلك كله في التغطية السورية استناداً إلى تصريح الأسد بأن المعركة الحالية في أوكرانيا "تصحيح للتاريخ"، فيتم استذكار نظريات "صراع الحضارات" لصامويل هنتنغتون و"نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما وسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، للقول جزافاً أن الولايات المتحدة بوصفها "جزيرة صغيرة تعيش على بعد محيط كامل عن بقية العالم" تنهار ولا يمكن لها أن تفرض "قيمها الأخلاقية المنحلة" على بقية العالم، إلى جانب تقديم بعد ديني للصراع، يمثل الروس بموجبه الكنيسة الأرثوذكسية التقليدية في وجه "قيم المثلية الجنسية والفلتان الأخلاقي" الغربية.
وهكذا، تصبح البلطجة الروسية معركة من أجل الإنسانية وقيم العائلة وحتى دفاعاً عن الإسلام الذي "تهاجمه فرنسا". ويصبح الجنود الروس محاربين نبلاء لا يقدمون على الفظائع مثل حصار المدن أو تجويع المدنيين والتعذيب في المعتقلات، لأن تلك "قيم أميركية فقط"، وكأن النظام وحلفاءه كانا طوال السنوات العشر الماضية يوزعون الزهور على المدنيين في سوريا ولا يقومون بتلك الفظائع وأكثر من أجل قمع الشعب السوري الذي طالب بالحرية والإصلاح السياسي.
أمام كل هذا الضخ العبقري لا يمكن سوى التحسر على المواهب الضائعة التي يمتلكها إعلاميو النظام ومحللوه الذين يحرمون العالم من إبداعهم الأدبي عبر تفرغهم للعمل الإعلامي فقط بدل تأليف الروايات والقصص وكتابة المسلسلات لـ"نتفليكس" في دولة لا تتوافر فيها الكهرباء أصلاً كي يتابع الناس تلك الكوميديا الخالصة التي بلغت ذروتها في الشوارع برفع صور بوتين والأسد في ساحات دمشق خلال عطلة نهاية الأسبوع مرفقة بعبارات "النصر لروسيا" و"نحن ندعم روسيا"، إعلان على أن "العرس الوطني الكبير" كاد يكتمل.. ولم يبقى لتمامه سوى عقد حلقات الدبكة في الشوارع وتقديم "مسيرة مليونية" من أجل عيون القائد المفدى "أبو علي بوتين".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها