الخميس 2021/12/16

آخر تحديث: 20:00 (بيروت)

اليسار الفرنسي مشرذم.. سيرك إعلامي وتلفزيون الواقع

الخميس 2021/12/16
اليسار الفرنسي مشرذم.. سيرك إعلامي وتلفزيون الواقع
increase حجم الخط decrease
المعطيات السياسية والانتخابية تشير إلى أن الاستحقاق الرئاسي الفرنسي ما زال مفتوحاً على جميع الاحتمالات بدليل استطلاعات الرأي ونتائجها المتقلبة. المؤكد حتى الساعة هو المصير المتربص بأحزاب ومرشحي اليسار: إذا استمرت بورصة الأسماء على حالها وبالنظر إلى المشهد العام في البلاد، لن يكون في وسع أي منهم بلوغ الدور الثاني. 

سبعة يساريين عقدوا العزم على خوض هذه الانتخابات: آن هيدالغو (عمدة باريس ومرشحة الحزب الاشتراكي)، يانيك جادو (مرشح حزب أوروبا- البيئة)، جان لوك ميلانشون (مرشح حركة فرنسا الأبية)، فابيان روسيل (أمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي)، آرنو مونتيورغ (وزير الاقتصاد السابق ومرشح مستقل)، ناتالي آرتو (مرشحة حزب النضال العمالي)، وفيليب بوتو (مرشح حزب مناهضة الرأسمالية). 

استطلاعات الرأي تظهر تفاوتاً بين المرشحين السبعة لناحية النتائج المتوقعة، إذ تبدأ من 1% لنتالي آرتو، لتبلغ 10% لجان لوك ميلانشون. هي نسب غير كافية لتخطي الدور الأول، فالمرشحان الرئاسيان الأوفر حظاً هما إيمانويل ماكرون (24%) وفاليري بيكريس (19%). 

منعاً لتجرّع الكأس المرّة، شهد الوسط اليساري مبادرات عديدة للدفع باتجاه خوض الانتخابات بمرشح/ة مشترك/ة، لكن من دون جدوى. أبرزها، دعوة أطلقتها مجموعة من الناشطين لإجراء انتخابات تمهيدية موحدة في كانون الثاني/يناير المقبل. 

بدورها لم تتردد صحيفة Libération اليسارية في أخذ زمام المبادرة حين لمست "انعدام المسؤولية"، فكان عددها الشهير في 28 شباط/فبراير للتحذير من خطر فوز اليمين المتطرف بسبب حالة اليأس التي تجتاح قواعد اليسار الانتخابية. لدعم حجتهم، لجأ أصحاب هذا التوجه إلى جمع النتائج المتوقعة للمرشحين السبعة ليتبين بنتيجة تلك العملية الحسابية أن 25% من الناخبين الفرنسيين "يساريو الهوى".


أخيراً، أعيد تحريك المياه الراكدة بعد تصريح آن هيدالغو، لقناة TF1 مساء الأربعاء 8 كانون الأول/ديسمبر، وتأييدها إجراء انتخابات تمهيدية للوصول إلى مرشح يجمع أطياف اليسار المشرذم. 

جهات عديدة شككت في مصداقيتها، واتهمتها بالهروب إلى الأمام، فماكينتها الانتخابية عاجزة عن الإقلاع وآخر استطلاع منحها 3% من أصوات الفرنسيين. هجوم شاركت فيه شخصيات من عائلتها الحزبية: فرنسوا هولاند هاجم هيدالغو و"ارتجاليتها"، معتبراً أنه لا معنى للتوافق على مرشح مشترك من دون الاتفاق على برنامج موحد، ملمحاً إلى فوات الأوان.  


وفي وسائل التواصل الاجتماعي سلط المغردون الضوء على التناقضات في مواقف هيدالغو: صباح الأربعاء حلت المرشحة الاشتراكية ضيفة على قناة France2 انتقدت خلالها دعوات توحيد مرشحي اليسار واصفة إياها، إذا ما تمّت، بالمصطنعة قبل إدلائها في آخر النهار بموقف معاكس ومن دون تحضير الأرضية لتلك الانعطافة. 

آرنو مونتبورغ، كان الوحيد الذي تفاعل بإيجابية مع موقف هيدالغو. في صفحته الخاصة في "توتير"، نشر مقاطع مصورة وهو يحاول الاتصال بأقرانه (ميلانشون، جادو، هيدالغو وروسيل) لحثهم على التقارب. صحيفة Libération سخرت من مونتبورغ واصفة خطوته بتلفزيون الواقع، وفي السياق ذاته، هاجمت الصحيفة بقسوة الحال الذي بلغه اليسار الفرنسي، مشبهة إياه بـ"السيرك الكبير". 


والحال أنه كلما طُرح السؤال عن أسباب "الشقاق" بين أحزاب ومرشحي اليسار، تأتي "النرجسية" في صدارة الأجوبة. هو عامل رئيسي من العوامل المعرقلة التي يستحيل إغفالها، لكن من الخطأ اختزال الواقع في تلك الحجة، فالمشهد أكثر تعقيداً ويتعدى النزعات الشخصية.

لنبدأ بطرح السؤال التالي: لماذا يُطلب من أحزاب اليسار الفرنسي خوض الاستحقاق الرئاسي معاً؟ وعلى أي أساس يفترض البعض أن الوضع الطبيعي يتلخص في وجود مرشح يساري واحد، فيما تعدد المرشحين يصنف في خانة "الشواذ"؟ من ينطلق من تلك "البديهيات"، فقد اختلطت عليه المسائل، وفقاً لعدد من الصحافيين والمحللين السياسيين.

تتحد أطياف اليسار الفرنسي من حين إلى آخر، بغرض التصدي لمشروع أو اقتراح قانون بعينه، فتتظاهر جنباً إلى جنب وتوحد مواقفها. علاوة على ذلك، نجحت بعض الأطر في جمع اليساريين على اختلافهم، كالنقابات العمالية والطلابية. لكنه يبقى تقارباً مجتزءاً وغير كافٍ للوصول إلى مشروع متكامل لحكم البلاد نظراً للتباينات الجوهرية في الرؤى. 

جان لوك ميلانشون، مرشح أقصى اليسار، يعارض النظام السياسي الحالي وينوي طرح تعديل دستوري للعبور نحو جمهورية سادسة ذات نظام برلماني. كما أن تنظيمه السياسي معادٍ للشراكة الأوروبية القائمة ويسعى للحد من الاندماج الاقتصادي. طروحات ليست للمساومة فهي المدخل لوضع البلاد على سكة الإصلاح الفعلي، وفقاً لحركة فرنسا الأبية. 

في الضفة المقابلة، لا يُخفي الاشتراكيون وحزب أوروبا-البيئة ميولهم الأوروبية، بل ينظرون بإيجابية إلى امكانات الاتحاد الأوروبي. مثالهم الأبرز خطط الإنعاش الاقتصادي الأوروبية عقب أزمة كورونا.  

مثال آخر لا يقل أهمية عن الاعتبارات الاقتصادية: الملف البيئي الذي أضحى قضية محورية على المستويين الداخلي والدولي. في هذا الإطار نجد تبايناً بين المرشحين: يعارض مرشح الحزب الشيوعي إغلاق المفاعلات النووية، فيما يتبنى كل من يانيك جادو وآن هيدالغو هذا الاقتراح على نحو صارم. ورغم تأييده لهذا المقترح، أعلن ميلانشون عزمه على تنظيم استفتاء للبت بهذه المسألة، كحل وسط يأمل من خلاله استمالة للشيوعيين ومرشحهم إلى صفه. 

وفقاً لمحللين سياسيين وخبراء إحصاء، الاتفاق على مرشح يساري بعينه لا يعني بالضرورة اصطفاف جميع الناخبين خلفه. على سبيل المثال، لو جرى الاتفاق على شخص ميلانشون قد تتجه شريحة من الناخبين المحسوبين على "وسط اليسار" إلى الاقتراع لإيمانويل ماكرون لميوله الليبرالية والأوروبية. في المقابل، إذا استقر الخيار على يانيك جادو أو آن هيدالغو، فقد تستميل مارين لوبان شريحة من الفئات الشعبية، لانحيازها إليهم في خطابها وبرنامجها. وقائع تطيح الحجة الداعية إلى جمع نتائج المرشحين السبعة وتقديمها كقالب واحد. 

من جانب آخر، لبعض الأحزاب حسابات تتعلق بمستقبلها التنظيمي: فالحزب الشيوعي اصطف خلف ميلانشون في انتخابات 2012 و2017، لكنه فضل هذا العام خوض الاستحقاق بمرشحه الخاص لأسباب عديدة، أهمها لجم انحسار قاعدته الانتخابية، فالرئاسيات تعد "أم الانتخابات" في فرنسا. من جهته، يعتبر حزب أوروبا-البيئة أن الاهتمام المتزايد بالمسائل البيئية يفرض عليه استغلال اللحظة وخوض الانتخابات بهويته الذاتية لتعزيز موقعه السياسي.   
الشواهد التاريخية تظهر أن وحدة اليساريين ليست بالضرورة مرادفاً للفوز، وتشرذمهم لم يتحول إلى عنوان للهزيمة: فرنسوا ميتران خسر استحقاق العام 1974 رغم خوضه المعركة الانتخابية كمرشح "اتحاد اليسار". في المقابل، لم يكن ميتران المرشح اليساري الوحيد حين انتخب رئيساً لولايتين متتاليتين (1981 و1988). كذلك الحال في انتخابات 2012 التي حملت فرنسوا هولاند إلى الإليزيه. 

انطلاقاً من هذا الواقع، يعتبر أحد السياسيين في مقابلة صحافية أن المشكلة ليست في تعدد المرشحين، بل في الفراغ السياسي الناتج عن الهزيمة المدوية التي لحقت بالحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. هيمنة هذا الحزب على المشهد اليساري طوال عقود جعله قادراً على الوصول إلى الحكم اعتماداً على قواعده الذاتية، لكن الفشل في ملأ هذا الفراغ بعد العام 2017 دفع بالبعض إلى البحث عن بدائل.   

المفارقة أن انحسار قواعد اليسار الانتخابية يأتي في وقت تحتل فيه عناوينه التقليدية مكانة متقدمة في وعي الناخبين، لا سيما بعد جائحة كورونا: ففي دراسة اجراها مركز Ipsos مطلع أيلول/سبتمبر ونشرتها صحيفة Le Monde اتضح أن نصف الفرنسيين يؤمنون بالترابط بين تعزيز دور الدولة من جهة، والنمو الاقتصادي وتعزيز التكافل الاجتماعي من جهة أخرى. 

السبب، وفقاً لمعدّي الدراسة المذكورة، يكمن في تغلغل طروحات اليمين واليمين المتطرف (الأمن، الإسلام، الهجرة، الهوية الوطنية) في أوساط ناخبي اليسار وعلى نحو لا يقل أهمية عن مبادئ العدالة الاجتماعية، وسط عجز الأحزاب اليسارية عن منافسة اليمين في هذا الميدان، ما يدفع البعض إلى الارتماء في "أحضان الغير". 

ما ذكر أعلاه لا يعني أننا أمام قدر محتوم. قد تدفع المعركة بمرشحي اليسار أو ببعض منهم إلى التحلي بقدر أكبر من المسؤولية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها