الأحد 2020/07/05

آخر تحديث: 00:30 (بيروت)

آخر مسيحيي الشرق

الأحد 2020/07/05
آخر مسيحيي الشرق
بيروت الخمسينات
increase حجم الخط decrease
كان جدي يخبرني عن جنوب لبنان، حيث ولد، قبيل الحرب العالمية الأولى. تتمحور ذكرياته حول المجاعة والبؤس والفقر، أغلب الظن أن جنوب لبنان في ذلك الزمن لم يحوِ أشياء أخرى. أخبرني أنه تعلم القراءة وحيداً، كتب له عابر سبيل الأحرف الأبجدية على جدار، ورحل. أما الكتابة فلم يكن له نصيب في إتقانها.

بعد جيل جدي، جاء جيل أبي، وكانت المدارس الحكومية قد بدأت بالانتشار في الجنوب، لكن تحصيل العلم لم يكن بالأمر اليسير. عائلات المزارعين، المحتاجة بشدة لليد العاملة، بالكاد استطاعت تعليم واحد من أبنائها. هؤلاء الذين تسنى لهم الحصول على التعليم من أبناء قريتنا، كان عليهم اجتياز الوديان مشياً على الأقدام، مع بزوغ الفجر، للوصول إلى المدرسة. المدارس الخاصة كانت قليلة جداً، ومحصورة في البداية في المناطق المسيحية. مَن كان ميسوراً مِن المسلمين، أرسل أبناءه إلى مدارس الراهبات، في بلدة تبنين أو عين إبل وغيرها.

أنا تلقيت تعليمي في مدرسة القرية الرسمية. اللغة العربية كانت طاغية على المنهج الدراسي، اللغة الفرنسية يتم تعليمها برداءة، مقارنة مع مدارس الراهبات الخاصة. في ما بعد، في التسعينات كما أعتقد، بدأوا تعليم اللغة الإنكليزية بشكل مقتضب. كنا نشاهد القنوات السورية، الأخبار التي قصها علينا أجدادنا حدثت في سوريا أو فلسطين، قبل الاحتلال أو خلاله. كان ارتباطنا الثقافي بسوريا وفلسطين، وبالشرق عموماً، إلى حد ما، أقوى من ارتباطنا ببيروت.

نزلت إلى بيروت في بدايات الألفية الثانية. حين وصلتها، عرفت للمرة الأولى أن حرباً أهلية جرت في هذا الجزء من البلد. كنت، خلال إقامتي في الجنوب، منفصلاً تماماً عن كل ما يحدث في العاصمة. رحت أراقب بدهشة آثار الرصاص في أبنية الأشرفية، متسائلاً عن هويات أصحاب الصور المعلقة على الجدران، والذين لا أعرف عنهم شيئاً. في الجنوب، لم نعرف سوى صورة الرئيس بري ونصرالله، وحين قضى باسل الأسد في سوريا، علّقوا صوره. أما بشير الجميل، ميشال عون، وسمير جعجع، فكنتُ حديث العهد بهم.

سكنتُ في منزل سيدة ثمانينية تدعى جورجيت. كنا خمسة شبان من مناطق لبنانية مختلفة. وكانت جورجيت، ككل كبار السن، تحب سرد قصصها القديمة، محاولة الخلود ربما. على العكس من جدي، تتمحور ذكريات جورجيت حول إقامتها في فرنسا ورحلاتها في أوروبا. تجيد اللغة الفرنسية، أكثر من إجادتها للعربية، وتشاهد قنوات فرنسية لم أسمع بها مطلقاً من قبل. العالم الذي وجدت نفسي فيه كان غريباً تماماً عني.

بالعودة إلى التاريخ، في العام 1919، أرسل الرئيس الأميركي لجنة كينغ كراين لاستفتاء السكان حول مصير بلادهم. اللبنانيون المسلمون إختاروا الوحدة مع سوريا، أما المسيحيون فاختاوا التوجه غرباً: الاستقلال تحت الوصاية الفرنسية.

ارتبط المسيحيون بالغرب منذ ما قبل نشأة لبنان. الدول الغربية التي أرادت مد نفوذها إلى الشرق، وجدت لدى الطوائف المسيحية موطئ قدم. الفرنسيون خصوصاً، أقاموا علاقات متينة مع الموارنة. توافدت إلى لبنان الإرساليات الأجنبية، بداية، لأهداف دينية، ثم ما لبثت أن بدأت بإنشاء المدارس والجامعات. شهدت المناطق المسيحية في القرن الثامن عشر، نهضة ثقافية، إذ افتتحت خلاله العديد من المدارس العريقة، مثل الناصرة التي احتفلت في العام 2014 بعيدها الـ120، والجامعات مثل جامعة القديس يوسف التي تأسست العام 1875. المسيحيون الذين كانوا يوماً فلاحين، باتوا يقودون عصر النهضة في الشرق، أسسوا الصحف والجمعيات. عبر المسيحيين، أحكم الغرب قبضته على لبنان. وعبر الغرب، والفرنسيين خصوصاً، نال المسيحيون العرش. أقامت فرنسا دولة لبنان الكبير، مفصلة على قياس المسيحيين، لتكون وطناً لهم.

منذ انتهاء الانتداب الفرنسي وحتى نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، كان القرار السياسي اللبناني في يد المسيحيين. ثقافياً، طبع المسيحيون لبنان بالثقافة الغربية، سواء بالتعليم أو بنمط الحياة الغربي. عند نهاية الحرب الأهلية العام 1990، خصوصاً بعد حرب الإلغاء بين عون وجعجع، وحرب التحرير بقيادة العماد ميشال عون ضد سوريا، خسر المسيحيون سيطرتهم السياسية على لبنان. تحولوا إلى مجرد غطاء للحاكم المسلم، سواء للسني رفيق الحريري، أو للحاكم الشيعي بقيادة حزب الله منذ العام 2006 وحتى اليوم.

مع ذلك، بقي المسيحيون أصحاب التأثير الأقوى من الناحية الثقافية. القيم الغربية، مثل حرية الصحافة والتعبير، أسلوب الحياة الغربي، العلاقات الثقافية مع الغرب، الجامعات المسيحية المدعومة من الغرب وذات المناهج الغربية، كلها بقيت على حالها.

في حديث جرى منذ سنوات، بيني وبين سيدة مؤيدة للتيار الوطني الحر، تناولنا فيه موضوع تحالفهم مع حزب الله، قالت: "لا أكترث لما يفعله حزب الله، سواء حارب في سوريا وقتل أفراده، أو سيطر سياسياً على لبنان. ما يهمني هو ألا يمس نمط حياتي، أن أكون حرة في ما ألبس، أسهر، أسافر وأقدم لأولادي تعليماً جيداً، لا يهمني حزب الله، طالما أنه لا يؤثر في رفاهيتي".

عندما أتحدث اليوم إلى السيدة نفسها، تقول لي أن هدفها الوحيد الآن هو الهجرة، وترك البلد. تشاركها في هذا الرأي غالبية من أعرفهم من المسيحيين. يرون أن كل ما بنوه في لبنان، منذ أكثر من مئة وخمسين عاماً، ينهار أمامهم خلال الأزمة الحالية. بدأوا يخسرون دورهم الثقافي، الجامعات العريقة تعاني مشاكل تمويل ومهددة بغلق أبوابها، المدارس كذلك، نمط الحياة الغربي والرفاهية ستتلاشى شيئاً فشيئاً. بات المسيحيون يخافون العودة إلى زمن الفلاحين، وأن يكون زعيمهم المقبل مجرد طانيوس شاهين آخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها