الأربعاء 2020/11/04

آخر تحديث: 15:04 (بيروت)

أضرار جانبية لأعمال داخلية

الأربعاء 2020/11/04
أضرار جانبية لأعمال داخلية
increase حجم الخط decrease
ثلاثة أشهر على ما يُسمى "هيروشيما بيروت". لا أنحاز إلى تلك التسمية، ببساطة لأن مدينتي المنكوبة إسمها "بيروت"، لا "هيروشيما"، كذلك أكره تسمية "الشهيد" وانحاز لكلمة "ضحايا" و"أضرار جانبية". لست أنا من يضع التسميّات، بل هكذا تتعامل معنا الطبقة الحاكمة لهذه البلاد المنكوبة التي لم تترك لأي منّا خيار البقاء هنا. لا أريد البقاء لأكون مشروع شهيد غصباً عنّي، و لا أريد أن أعامَل كأضرار جانبية في لحظة موتي التي يُفترض أن تكون أسبابها طبيعية. فما الدافع الذي قد يبقيني في هذه الأراضي للحظة بعد؟ لماذا أمكث في مكاني ليصيبني ما يُسمى بالموت المجاني؟

لنتخيّل معاً هذا المشهد: نسير بلا اكتراث قرب خط من السيارات في أحد الشوارع. وإذا عدنا إلى الطريق نفسه ووجدنا سيارة ذات زجاج محطّم، سنتحقق من كل شيء في داخلها. فكيف لو كان موقف بيروت الكبير مُحطماً، وقطع السيارات متناثرة في الشوارع؟ الكل سيشاهد ويراقب ويدقق. ببساطة، لأن كل شيء أصبح مُباحاً. وهذا ما ترويه إحدى نظريات علم الجريمة، "نظرية النوافذ المحطمة".

الأبواب مخلوعة، وكل بيوت بيروت مُباحة. كيف ننام والزجاج ما زال مُحطماً؟ ما الذي يمنع أي أحد من الدخول أو التلصص على بيوتنا المفتوحة؟ "درون" الكاميرا الطائرة، وصديقتها الملازمة الدائمة في سمائنا "إم كامل" الإسرائيلية، والكاميرا ذات الساقين، اللصوص، السياح، الجيش، السكان والمشاة قرب البيت، المسعفون، المحققون المحليون والدوليون، الـFBI، والبعثة البولندية، وفريق يتطوع من تشيكيا، وتشيلي وكلبها "فلاش" يبحثون عن نبض بين الركام الذي يسير فوقه المعالجون النفسيون بمرافقة المحللين الاقتصاديين وأمامهم إيمانويل ماكرون، دايفيد هيل، مطربون، مؤدّون، ممثلون وتجار الزجاج. كيف ننام وكل هؤلاء يتلصصون علينا عبر النافذة المكسورة؟

ثلاثة أشهر على إنفجار مرفأ بيروت، ولا تحقيق يروي ظمأنا للعدالة، والنوافذ ما زالت محطمة. حتى الجسد له نافذة مكسورة، يتسلل منها الجوع كالدولار الطائر فوق أنقاض الليرة. كنّا دائماً فقراء، لكننا لطالما قدرنا قيمة الطعام الطازج، "الفريش"، كالدولار الذي أصبح اليوم أفخر أطباق المطبخ اللبناني.

كيف أتنقل وسيارتي تحطمت جراء انفجار المرفأ، ولا أحد يعوّض عليّ، وقطع غيار السيارة بالدولار؟ أفكر أني حتى إن احتجت لعضو بشري، ككبدٍ أو قلب، ستكون كلفته أيضاً بالدولار، والموت حتماً أرخص، و"لا داعي للهلع"، فلن نعيش إلا حياة واحدة كهذه الحياة الباهظة بأكثر المعايير تدنياً. ولعل أقصى أحلامي اليوم أن أصاب بالكورونا وأشفى منها، كي أتخلص من عقدة الذنب التي ولّدتها تلك الجائحة وترافقنا في كل خطوة خارج بيوتنا. بيوتنا التي ما زالت بلا جدران، بلا كمامة "اسمنتية". الكورونا أيضاً طائرة. كانت النافذة المُقفلة تحمينا منها، لكنها انكسرت وأصبحنا كلنا عرضة للطائرة القاتلة الفتاكة "كوفيد-19". لا داعي للهلع، فوزير الصحّة يرقص ويبتسم للصورة.

قبل الإنفجار، قبل الكورونا، قبل الإنهيار الإقتصادي، قبل الثورة، قبل ميشال عون، قبل الحريري،.. لطالما رافقني القلق، منذ الولادة في هذه البلاد، والنصيحة الشائعة بين الأهل لأبنائهم كانت دائماً "انتبه على حالك". ماذا الذي قد يحصل إن خرج بعض الفتية للتسكع؟ هل سيموتون فجأة؟ هل "يستشهدون" بلا خيار أيضاً؟ لنعد إلى تاريخ "الأضرار الجانبية".

خمسة أطفال التقطوا آخر "سيلفي" في حياتهم القصيرة قبل أن تنفجر سيارة محمد شطح في العام 2013. الشاب روي حاموش، طوِّق بسيارات مدججة بمسلحين قتلوه بلا رحمة في العام 2017. و"الزيادان"، غندور وقبلان، اختطفا وماتا مقتولَين بسبب ملاسناتٍ طائفية ومعارك عشائرية مقيتة العام 2007. هل مات هؤلاء، والمئات غيرهم، كـ"أضرار جانبية" لـ"أعمالٍ داخلية" أيضاً؟ هل كان في إمكان هؤلاء الضحايا تفادي الشظايا أو رصاص السلاح المتفلت وعواقب العيش في بلاد جهازها القضائي عقيم؟ كنا ننام وننسى، ثم نستيقظ في اليوم التالي لنستقبل أخباراً جديدة من سرقات وجُنح وجنايات على امتداد خريطة البلاد، وكنّا "نُبنِّج" جروح الأمس بجروح جديدة كل يوم. نغيِّر طعم جرائم الأمس في أفواهنا، بجرائم اليوم والغد، دائماً.

كيف أنام اليوم والزجاج ما زال يحيط بجسمي وعقلي؟ حتى اليوم، ومنذ الرابع من آب 2020، أجد بعض زوايا شوارع الأشرفية والجميزة تلمع ليلاً بالزجاج. وداخل البيوت العارية من الأساسات والأثاث، أهلوس بالنافذة التي تطلب غطاءها. تذكرني النافذة المكسورة بأنني لن أتمكن من بناء غيرها. فلماذا أفكر في بناء بيت أو عائلة، من أبواب وجدران قد تتحطم في أي لحظة، وأحباء قد أخسرهم باكراً؟ أين يأخذ مفعوله هذا "الأمل" في النقطة صفر؟ Ground Zero، نحن هناك، أي القعر، النقطة الصفر، قبل البداية حتى. سئمت الإعادة، إعادة البناء، التعمير، التطوير، التزبيط، التربيط، التخبيط والتلبيط والتبليط، وسئمت رائحة الإسمنت، والأفكار التافهة كطائر الفينيق، "الدرون" التاريخي الذي ينهض من الركام ليعيد بيروت ويصورها وهي التي "ماتت ألف مرة، لتحيا ألف مرة". هذا الإعلان بالتحديد يستفزني.. لماذا عليّ إعادة كل شيء ألف مرة؟ ولماذا عليّ أن أقاوم؟ بماذا أقاوم؟ لو كان في يدي مسدس، في الرابع من آب، وأنا عالقٌ في زحمة والجثث والجرحى، لقتلتُ نفسي حتماً. أقود وأردد في دماغي "يا أرض انشقي وابلعيني". هل أنا كسينمائي ومصوّر شاب، سأتمكن من حمل كاميرا في هذا اليوم للتغطية؟ أرتجف وأقود ببطء فوق الزجاج الذي ثقب إطارات سيارتي وشقَّ قلبي مئة مرة. ماذا أصوّر؟ أصور نفسي أم أصوّر الضحايا لأكسب "رايتنغ"؟

ضحايا لم يختاروا طريقة أو نمط حياتهم، ولا الطريقة التي سيموتون بها. رجلٌ كان يهرب من زحمة السير عبر طريق الحازمية السريع، الذي يمكن الوصول إليه عبر جسر شارل حلو أمام المرفأ. صبية في العشرين من عمرها، تعمل نادلةً في أحدى الحانات، مرّت على صديقتها لتشرب فنجان قهوة أو زجاجة بيرة قبل دوامها الذي يبدأ السادسة والنصف مساءً. عتّال حمل سنوات على ظهره ولم يرفض فرصة الحصول على خمسة آلاف ليرة زيادة على محصوله اليومي، ليعمل في هذا الوقت في "أهراءات القمح" في المرفأ نفسه. متطوعون لإطفاء حرائق الأحراج والمنازل، مُسعفون لمصابين من دون معيل، موظفون عُزّل عائدون إلى بيوتهم. نحن ضحايا الصدفة، البشر الذين حاولوا ممارسة حياتهم رغم كآبتها. كنا نعلم أننا لسنا سوى فئران، أضرار جانبية لأعمالٍ داخلية، لكننا لم نكن نعلم أن حياتنا ستتحول إلى أضرار فقط.

كان يجدر بي التوجه قبل الساعة السادسة إلى مقهى "رواق"، في منطقة مار مخايل، للقاء صديقتي روبي التي كانت عند السادسة مساءً تشرب الليموناضة الممزوجة بالـ"لافندر" لتسترخي بعدما كتبت ثلاث أغانٍ. كان المخطط عند الساعة السادسة ودقيقتين، أن نلتقي بعد ربع ساعة، سآخذها من "رواق" وسنتجه إلى منطقة برج حمود لأصوّرها والمرفأ خلفها. لم أتوقع أن مشاريعنا ستؤجل بسبب الإنفجار، ولم أتوقع أن تختفي روبي لنجدها بعد ثماني ساعات من البحث، في المستشفى، وفي ساقها مئة قطبة. بيديها الباردتين، تحمل جرحها والمئة قطبة التي رسمت ما يُشبه الحسكة في فخذها. لم تُعرف روبي حتى اليوم بصوتها كمغنية أو بمهاراتها كممثلة شابة. اليوم، كثيرون يعرفونها كضحية، وهي تكره هذا الأمر، وأتفهمها بقوة. ليست هذه طريقة مناسبة لاكتشاف المواهب.

فكيف نحارب الإكتئاب؟ في أي سياق أضع كلمة "أمل" في الحديث عن العزّل وفرق الإطفاء، وكل من كانوا يحملون هواتفهم المصوّبة على المرفأ، بعضهم من شرفات بيروت، بهدف توثيق "غيمة الفطر" الزهرية التي تركت خلفها مئات القتلى، وآلاف الجرحى، مئات الآلاف من المهجرّين، ومدينة زجاجية مُحطمة، لا شارع ذا طابع تراثي فيها يُخبر عن أي شيء قبل بداية الروزنامة اللبنانية الحديثة التي بدأت بعد الرابع من آب 2020. وحتى اليوم، ليس هناك أي تحقيق، ولا حتى ورقة نعوة رسمية تنعي هذه البلاد.

لست متأكداً من فعالية أي نسبة من الأمل بمواجهة هذا الإكتئاب. تعرفون هذا الإكتئاب جيداً، له وجه وصوت ومقومات إنسانية كاملة. الإكتئاب رجلٌ مُسِن يجلس في قصر بعبدا، ويقول لنا أننا "ذاهبون إلى جهنم".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب