الأحد 2018/07/22

آخر تحديث: 17:50 (بيروت)

لبنان: انحدار الصحافيين و"ترند" تدجينهم

الأحد 2018/07/22
لبنان: انحدار الصحافيين و"ترند" تدجينهم
سيلفي مع السياسي تمنحه صك الإعتداد بالمصادر، وتحويله الى مرجعية يمكن الركون إليها في استقاء المعلومات
increase حجم الخط decrease
كتب الأستاذ جهاد الزين في جريدة "النهار" مقالاً عن الصحافي الموظف عند السياسي، مشيراً إلى اختلال ميزان الصحافة لصالح صحافيين يعملون لدى السياسيين ويصبحون مندوبيهم في الصحف ووسائل الإعلام. 

ويعيد الزين في مقاله جانباً من أسباب تدهور الصحافة إلى هذه "الموضة" الجديدة، وهي بمعنى أوضح، تزلّف الصحافي للسياسي، وتبجيله، والإعتداد بنفسه كساعي بريد "السماء السياسية"، وليس كصحافي يحمل فكراً نقدياً، أو يقدّم نصاً أو تقريراً منفصلاً عن ما يلقّن به. أصبحت مراتب المهنة في لبنان، مخصصة لمن يفوه بما يلقّن، وليس بما يفقه أو يحلل.

عمليات الربط والتحليل أصبحت من المحرمات، ومكامن القوة ترتكز على معلومة موجهة، مطلوب لها أن تصل بلا أي نقاش أو تحليل لخلفياتها.

 وقد سبق لبنان بكثير ما أشار إليه الزين في متن نصه، حول ما يرتكبه الرئيس الأميركي دونالد ترامب من سابقة في سلوك الرؤساء، حول طرد الصحافيين غير المطبّعين إن صح التعبير أو المشاكسين. وهذه منذ سنوات بدأت في لبنان تؤسس لحقبة جديدة من الإنحدار الصحافي، عنوانها أن الصحافي المقبول في دوائر القرار، هو الذي لا يناقش، ولا يريد ملاحظة الشائب أو تسجيل الإعتراض. وفي زمن انتفاء الحاجة إلى آلات التسجيل الصحافية، استعاض الصحافي عنها بنفسه، وبتحويل مهمته إلى آلة تسجيل فقط، غير قابلة للنقد.

عمليات طرد الصحافيين في لبنان من قبل السياسيين كثيرة ومشهودة، وهي كانت عاملاً جديداً، مؤسساً لصحافة من نوع جديد، تتجلى هذه الأيام بثقافة السيلفي. حيث باتت صورة سيلفي لصحافي مع سياسي بمثابة صك الإعتداد بالمصادر، وتحوله الى مرجعية يمكن الركون إليها في استقاء المعلومات بحكم تقرّبه من هذا السياسي أو ذاك. وهذا نموذج يتعمم على مختلف السياسيين، بحيث لم يعد هناك استعداد لدى السياسي أن يستقبل صحافياً مشاكساً أو يطرح فكرة إعتراضية أو سؤالاً يفتح أفقاً مغايراً لما يريد السياسي تعليبه وتمريره.

 صحيح أن الصحافي يسعى وراء الأخبار الحصرية، والصورة المعهودة عن الصحافي الناجح، تتشكل في مدى قدرته على استقاء المعلومات. لكن جوهرياً هذا أكثر من يتناقض مع المهنة، لأن إستقاء الأخبار هو شغل المخبرين أو الأمنيين، أما نقل الأخبار فهو مهنة سعاة البريد. ما يميّز الصحافي عن المهنتين السالفتين، هو القدرة على التفكير والتحليل والتفكيك لرموز ما تكوّن أو تجمّع لديه، وتقديمه بصيغة تحيط القصة من جوانبها المختلفة. وما هو ثابت أنه لا يقدم مسؤول سياسي أو عسكري على تسريب معلومة لصحافي إلا ويكون من خلفها غاية، وهذا أيضاً تثبته التجربة في لبنان. الغاية قد تكون تنافسية، وقد تتعلق في حسابات سياسية ومصلحية بحتة، بعيدة كل البعد عن مبدأ شفافية التسريب، أو نبله.

 ما غدا معهوداً هو التنافس بين المسؤولين، سياسيين وعسكريين، على تجميع كم هائل من الصحافيين حولهم، يجري استخدامهم في إرسال تعاميم وتوسيع مدى انتشارها، بلا أي حس نقدي. ولذلك يبدو جلياً مدى تحول المهنة والأقدر فيها، إلى ما يشبه إختصاصاً في العلاقات العامة وتوسيع شبكاتها، في البحث عن سدّ أوقات ضائعة بتلبية ولائم ورحلات، تكون لها وظائف دعائية أو غايات "إمبراطورية" وفق قاعدة قل لي مدى قدرتك على التسريب وصناعة البهرجة، أقل لك كم أنت فاعل وواصل، ومعنى الوصول هنا ليس وصولية فقط، إنما أيضاً القدرة على الإتصال بأكبر عدد من الشرائح الإجتماعية والسياسية والإقتصادية.

 ما أحرز في لبنان من تطور، يسجّل أرقاماً قياسية في آلية صناعة أبطال أو صنّاع حلول ومعجزات، وهذا ما يسعى إليه السياسي في تقديم صورة المخلّص عن نفسه بالإستناد إلى العلاقات العامة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المهنة، ولا تخدم الخبر وقدسيته أو صحّة المعلومة، بقدر ما تخدم من هو وراء الخبر والقالب الذي أريد إخراجه به. ولذلك شواهد عديدة برزت مؤخراً.

 في قضية الممثل زياد عيتاني، وغيره كثر تعرّضوا لما تعرّض له وربما أسوأ، كان العامل المتحكم في مسار القضايا هو عامل التسريب، والذي كان يتلقاه الصحافي بلا أي حس نقدي، ويعمل على تقدميه كما هو، من دون طرح فرضيات أو إحتمالات أو على الأقل ترك المجال أمام فرضيات تنقض ما يتقدّم. الأمر نفسه تكرر في تسريب مرسوم التجنيس، والذي سرّبته جهة أبدت انزعاجها من إصداره من دون الرجوع إليها، فكانت حملة إعلامية واسعة، إلى أن أجريت عملية تصحيح للمسار، حينها صوّرت الجهة بأنها التي ستصنع معجزة فيها الخلاص مما اقترفه آخرون، أنجزت الجهة عملها وسط ضوضاء من الأجواء الصحافية.
أزمة الصحافة من أزمة العقل العربي واللبناني. وهي تكمن في تحوّلها من مادة نقاشية واعتراضية وتحليلية، إلى مادة إخبارية غير قابلة للنقاش. وهذا ما يسهم في تكريس تنميط جديد من قبل السياسيين، عبر تكوين جحافل من الصحافيين حولهم، يعملون على تسويقهم وتبجيلهم، لقاء خدمات متبادلة، يرتضي فيها الصحافي العمل لصالح جهة وليس لصالح مهنته، وهذا كله يقوم على قاعدة تعزيز النقل، على حساب تهميش العقل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها