الثلاثاء 2018/06/19

آخر تحديث: 18:58 (بيروت)

نيويورك نيويورك!

الثلاثاء 2018/06/19
نيويورك نيويورك!
increase حجم الخط decrease
عملتُ مؤخراً لصالح إحدى المنظمات غير الحكومية، وكانت مهمتي تفريغ تسجيلات صوتية لمقابلات أجريت مع لاجئين سوريين يعيشون في تركيا ولبنان والأردن. أسمع العديد من القصص، المواقف المفرحة والمحزنة في حياتهم، ألمهم وأحزانهم وأحلامهم، أضع مشاعري جانباً، وأفرغ ما أسمعه بسرعة، كالآلة الكاتبة، أحاول ألا أندمج أو أتعاطف حتى لا أتأخر. 

فهمّي الوحيد هو التسليم قبل الموعد المحدد والحصول على المال لدفع إيجار المنزل قبل مضي آخر أيام الشهر. أكتب بنهم، لستُ مبالية بإزدياد عدد اللاجئين، المهم أن تزداد الدولارات التي سأحصل عليها في نهاية الشهر.  

في أحد التسجيلات الصوتية، قام مسؤول المنظمة بطرح سؤال على بعض اللاجئين، يتعلق برأيهم في إعادة توطينهم، فعم الضجيج لثوانٍ وانطلق صفير مزعج من السماعتين في أذنيّ. فكرت للحظات بتخطي تلك المعمعة الصوتية، لكني سمعت صوت شابة بين زحمة الأصوات تقول: "ياريت هاد حلمي"، ليرد عليها صوت غليظ لرجل: "اسكتي ... نحنا ما بدنا"! قبل أن يُسكِت المسؤول الأصوات العشوائية ويطلب من الجموع الالتزام بالدور والجواب بالتتابع.

بدأ أحدهم بسرد تجربته قائلاً: "كله إلا أميركا... عندما جاءني اتصال من الأمم، وأخبروني بأن ملف سفري تم قبوله في السفارة الأميركية وأن عليّ أن أكمِل بعض الإجراءات بسرعة استعداداً للسفر، أغلقت الهاتف بوجه المتصل وقمت بسحب ملفي من الأمم ... لن أقبل أن أسافر إلى أميركا فهي عدوي، هي سبب الخراب في الوطن العربي وسوريا".
 
أوقفتُ التسجيل حينها، بكيتُ وضحكتُ، وسألت نفسي باستغراب: أميركا؟ وبقي السؤال يتردد في ذهني: وكيف لأحدهم أن يرفض هذه الفرصة؟ ولماذا؟

منذ كنت طفلة وأنا أحلم بالسفر إلى الولايات المتحدة، أن أستقل عن عائلتي الفلسطينية التي ما زالت تحتفظ بمفتاح العودة، وأكمل دراستي هناك. أميركا أعظم بلد في العالم. كنت أحلم بالحصول على الجنسية الأميركية وأن أسافر وأتجول حول العالم كما يحلو لي. منذ صغري وأنا أسمع عنها حكايات من المحيطين بي، يصفونها بالحلم، وأرى كيف يُعامَل المغتربون العائدون من هناك كالملوك. أصبحت أميركا حلمي وهاجسي الوحيد. 

في المدرسة الثانوية كنتُ محطّ استهزاء أسرتي، بسبب جوابي الدائم عن سؤالهم: "شو قررتي تدرسي؟" إذ كان جوابي بأنني أطمح للحصول على منحة لدراسة علوم الفضاء والفلك في أميركا، وأطمح من بعدها أن أعمل في "ناسا". في إحدى المرات أخذ أبي كلامي على محمل الجد، ورد بوجهي صارخاً: "نحنا ما عنا بنات تسافر". بكيتُ يومها كثيراً. وبعدما شعرت عائلتي بأنني أفكر في السفر بشكل جدي، بدأوا يقصون عليّ قصصاً لترهيبي، فحدثني صهري عن العقول العربية النابغة في أميركا، التي تتم تصفيتها وتسميمها بسبب عروبتها. ضحكت من سذاجته، ولم تزعزع حكايات العائلة الفانتازية فكرة "أميركا الحلم".

أوقفت التسجيل الصوتي، استمعت لأغنية "نيويورك" ودندنت كلماتها 
Baby, I'm from New York!
Concrete jungle where dreams are made of
There's nothing you can't do
Now you're in New York! 

اتصلت بصديقتي وسألتها: "هل من الممكن أن أموت من دون أن أزور أميركا"؟ فضحكَت واستهزأت بي قائلة: "ليس من الممكن، بل هو أكيد". كلامها الذي جاء على سبيل المزاح أعادني إلى الواقع، فوثيقة السفر التي أحملها، الخاصة بالفلسطينيين السوريين، ليست قادرة على إعادتي إلى لبنان إن خرجت منه، فكيف أسافر إلى أميركا؟ 

فالدولة السورية التي نشأت في كنفها تتباهى بكونها دولة ممانعة، لا تمنح الفلسطينيين المولودين فيها الجنسية، وتعطينا فقط بطاقة إقامة مؤقتة ووثيقة سفر لا تخولنا السفر سوى إلى "الدول الاشتراكية الصديقة"، مثل روسيا والصين. ودول كثيرة لا تعترف بهذه الوثيقة أصلاً، فضلاً عن الموافقات الأمنية المسبقة التي يطلبها النظام عند رغبتنا في السفر. فكيف أسافر بعد ذلك كله إلى أميركا؟

ربما عليّ أن أرابط عند السفارة الأميركية لممارسة دور البطل الخارق وإنقاذ الأطفال، كحال اللاجىء المالي (سابقاً).. الذي تسلق تسعة طوابق في فرنسا، وعرض نفسه للموت لإنقاذ طفل فرنسي، ليصبح جديراً بحمل الجنسية الفرنسية. أو ربما عليّ أن أحرق نفسي ليلتفت العالم إليّ أو أخرج عارية إلى الشارع وأكتب اسم دونالد ترامب على جسدي كي ينتبه إلى وجودي من دون أن ينتهي اهتمامه بذكري في إحدى تغريداته في "تويتر".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها