الجمعة 2018/05/11

آخر تحديث: 19:23 (بيروت)

من "هايد بارك" إلى "تويتر": طريق شائكة الأسئلة

الجمعة 2018/05/11
من "هايد بارك" إلى "تويتر": طريق شائكة الأسئلة
من المسيرة الاحتجاجية ضد إدارة "تويتر" في وسط لندن
increase حجم الخط decrease
"ركن الخطباء".. كانت هذه وجهتي، في إجازة نهاية الأسبوع الأولى لي في لندن. كنت قد وصلت إلى المملكة المتحدة، قبلها بأيام فقط، وكنت متحمساً بخليط من حسن النية والسذاجة، لزيارة الزاوية الشهيرة بحديقة "هايد بارك"، والاستماع إلى جدالات روادها.
لكن زيارة البقعة، التي لطالما تردد عليها من بين كثيرين: ماركس، ولينين، وجورج أورويل، لم تكن كما تصورتها. ففي زيارتي للمكان الذي كان، بالنسبة إلي حتى وقت ليس ببعيد، رمزاً لفكرة حرية التعبير، لم أجد سوى عدد قليل من السياح الآسيويين، الذين توقفوا لالتقاط الصور، وعلى وجوههم علامات الاستهزاء وخيبة الأمل مما سمعوه من الخطباء القلائل هناك. 

فباستثناء خطيب كان يحاول إقناع الجمهور بالهجرة إلى فنزويلا، حيث جنة الاشتراكية المتحققة، كان بقية المتحدثين يتكلمون عن الدين، وبينهم رجل أسود بلكنة "كاريبية"، لطالما رأيته في البقعة نفسها لسنوات لاحقة، وهو يواظب على الحضور كل أسبوع، لا لشيء سوى لمهاجمة الإسلام والتحريض على معتنقيه بدأب شديد.

ما كان مثيراً للإحباط، لم يكن خطاب الكراهية. ففي النهاية يظل التحريض عرضاً جانبياً للحرية، لا بد من تجرع بعضه على مضض. إنما ما أزعجني أكثر من أي شيء آخر، هو كيف أضحت حرية التعبير معطى مسلّماً به، إلى الحد الذي لم يعد معه أحد معنياً بها، وتركت في الأخير لحفنة من المهووسين دينياً، يصرخون بوعيد بالجحيم ونهاية العالم في وجوه المارة في "هايد بارك". 

يوم الأحد الماضي، إنطلق من "ركن الخطباء"، آلاف المحتجين في مسيرة تحت شعار "حرية التعبير". حمل المتظاهرون، الذين مرت مسيرتهم بوسط لندن، شعارات مناهضة للإسلام، فيما تقدمهم عدد من رموز اليمين العنصري من بريطانيا والولايات المتحدة. فالتظاهرة جاءت إثر قيام إدارة "تويتر" بإلغاء حساب تومي روبنسون، الزعيم السابق لـ"رابطة الدفاع الإنكليزية" اليمينية. ورغم أن الشركة لم تبرر قرارها، إلا أن روبنسون نفسه صرح بأن السبب هو تغريدة له قال فيها إن "الإسلام يحرض على القتل".  

قبل خمسة أعوام، كنت قد رأيت روبنسون في تظاهرة أخرى، شرقي لندن، لكني كنت على الجانب الآخر من الاشتباكات التي دارت بين أنصار "رابطة الدفاع"، وبين الجماعات المناهضة للفاشية وأهالي منطقة "أولدغيت" ذات الجالية المسلمة الكبيرة التي كانت مسيرة "الرابطة" معنية بترويعها.

يومها، اعتقلته الشرطة البريطانية بتهمة التحريض والحض على الكراهية، ومعه مئات من التظاهرين من الجانبين. ربما جاء قرار "تويتر" متأخراً جداً. فدارين أوزبورن، منفذ عملية الدهس أمام مسجد "فينسبري بارك" والتي خلّفت قتيلاً وعشرات الجرحى، كان قد أقر بأنه كان متابعاً مخلصاً لتغريدات روبنسون، وواحدة منها تقول: "لو كان الأمر بيدي، لأرجعت كل ذكر مسلم، دخل الاتحاد الأوروبي خلال العام الماضي، من حيث جاء.. لاجئون مزيفون!" 

إلا أن ما يثير الاهتمام في أمر تظاهرات حرية التعبير ضد "تويتر"، هو خطاب اليمين الغربي، الذي خفف من جرعة البروباغندا القومية والتفوق العنصري، لصالح خطاب مظلومية يدعي الدفاع عن حرية التعبير والضمير، ضد نخبوية يسارية متعالية على عامة الناس وحقوقهم. ورغم وصول ترامب إلى البيت الأبيض، فإن دعاية المظلومية والتذرع بمعاناة الإقصاء، من جهة تيارات اليمين المتطرف الغربي، لم تتوقف، بل تصاعدت.

فاستراتيجية الخوف والتهديد لطالما اقترنت، ولا زالت، بالأفكار الفاشية، بغية ترويع الغالبية "البيضاء" المغلوب على أمرها من الخطر الذي يمثله الآخر، سواء كان هذا الآخر مصرفياً يهودياً جشعاً، أو إرهابياً كامناً داخل كل مسلم، أو رجلاً أسود متأهباً لارتكاب الجرائم في أي لحظة. يمزج اليمين العنصري اليوم، بين خطاب الخوف والمظلومية ذاك، وشعارات ليبرالية وتحريرية، تضع حرية التعبير على رأس عناوينها. 

ورغم الطبيعة الانتهازية لحملات الدفاع عن حرية التعبير، حيث تنظر المحاكم الأميركية عشرات من القضايا التي رفعها نشطاء يمينيون متطرفون ضد الشركات الرقمية الكبرى، من بينها "فايسبوك" و"يوتيوب" بالإضافة إلى "تويتر"، إلا أنها لا تخلو من أسباب لأخذها بعين الاعتبار. فتلك الحدود الدقيقة والهشة والمتأرجحة دائماً، بين حرية التعبير وخطاب الكراهية، بين الحق في الخطاب والمصلحة العامة، من يحددها؟ وكيف؟ 

فالقوانين والقواعد التي كانت تحكمها في "ركن الخطباء"، أو في وسائل الإعلام التقليدية، تم تجاوزها بالفعل، مع صعود وسائط التواصل الاجتماعي الكثيفة والواسعة، والعصية على المراقبة والضبط. فإذا كانت الرقابة الحكومية في الماضي، ومعها الرقابة الذاتية للصحف ومحطات التلفزيون والإذاعة، عمليات يمكن رصدها وتحليلها ومناكفتها وتحديها ومسألتها عبر قنوات مؤسسية وأهلية، فإن الطبيعة الإدارية والمطلقة في حالات الحجب أو المنع، التي تقررها إدارات "تويتر" و"فايسبوك" وغيرها، وفي أحيان كثيرة من دون إبداء أسباب، تبدو صادمة ومقلقة بالفعل. 

فإن كنا راضين اليوم، بحجب المحتوى اليميني المتطرف، أو الأصولي الجهادي، من الإنترنت، بقرارات إدارية من موظفي وادي السيلكون أو برمجياته الذكية التي تعمل آلياً، فماذا إن بدأت تلك القرارات المطلقة حجبَ محتويات أخرى؟ من يحدد الخطوط الفاصلة بين المتطرف والمبالغ فيه، والمحرض على العنف والراديكالي، وغيرها من مئات الثنائيات المراوغة؟ 

تظل الحرية بأشكالها هدفاً دائماً لتهديد التجاذبات، بين الميل السلطوي للرقابة، والقيود الواجبة لحماية المصلحة العامة. لكن تلك التهديدات تبدو أعمق وأخطر حين تنزع السياسة عن طرفي تجاذباتها، وتنتقل من ساحة أسئلة الحكم والمسؤولية الأخلاقية الفردية والمجتمعية، إلى نطاق القرارات الإدارية الصغيرة للشركات الرقمية العملاقة. وتبدو أخطر وأخطر، حين يتيح ذلك كله استغلال شعار "الحرية" من طرف أعدائها تحديداً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها