الأربعاء 2018/11/14

آخر تحديث: 16:59 (بيروت)

يعجبك الذكاء الاصطناعي؟..ماذا لو أنه سِحر أسود؟

الأربعاء 2018/11/14
يعجبك الذكاء الاصطناعي؟..ماذا لو أنه سِحر أسود؟
increase حجم الخط decrease
بات الحديث عن الذكاء الاصطناعي  Artificial Intelligence أشبه بخبز النقاشات العامة في المجتمعات المعاصرة، بل يمتد الحديث عنه من عقول العلماء والتقنيين المشتغلين فيه إلى الخيال الذي يراود أدمغة جمهور واسع صارت حياته اليومية معجونة بالتقنيات الذكيّة، ومروراً بالأخيلة التي لم تكف شاشات الترفيه المتنوّعة عن ضخها إلى العيون منذ سنوات طويلة. 

إذاً، لم لا نجرب فصل الحب عن الزؤان في ذلك الخليط الشائك؟ بعبارة اخرى، الأرجح أن التفكير نقديّاً في نقاشات الذكاء الاصطناعي ربما يكون ممراً إجبارياً لمن يسعى إلى معرفة الوقائع الفعلية عن ذلك الشأن الحساس. ويزيد في أهمية التفكير النقدي، وكلمة نقد تعني أولاً فهم الأمر وإدراكه واستجلائه، أن الذكاء الاصطناعي هو فعليّاً قلب الثورة الصناعيّة الرابعة Fourth Industrial Revolution التي تعيش البشريّة التحوّلات الكبرى المُمَهّدَةْ لها. [يوجد في إرشيف موقع "المُدن" مجموعة من المقالات تشرح الذكاء الاصطناعي، لمن يريد الاستزادة عنه].
إذاً، ما هو الشيء الذي يجدر "نقده" في مسألة الذكاء الاصطناعي؟ ببساطة، يجدر النقاش وحكّ الذهن عن أسئلة بديهيّة من نوع هل وصل تطوّر العمل على ذكاء الآلات إلى نقطة يمكن القول بوجود ذكاء اصطناعي فعليّاً، بمعنى أن تقدر الآلات على التفكير باستقلالية وابتكار على طريقة ما يفعله ذكاء العقل الإنساني؟

إذا نظرت إلى الأمر من هذه الزاوية، ربما بدت الأمور مختلفة قليلاً!

مثلاً، هل يصدمك القول بأن القول بعدم قدرة العلوم المعاصرة على صنع ذكاء اصطناعي فعليّاً هو رأي طالما ردده متخصص بتلك العلوم من وزن البروفسور الراحل مارفن مينسكي (1928- 2016) الذي يعتبر من المرجعيات العلمية فيه، بل ينسب إليه صنع الكومبيوتر الذي هزم البشر في الشطرنج، والروبوت "واطسون" الذي وصل ذكاؤه إلى حد أنّه يحاول دراسة الطب في إحدى جامعات بريطانيا. 

وفي العام 2018، لم يتردد متخصص أميركي آخر في وصف البحوث المعاصرة عن الذكاء التي تجري في قلب "وادي السيليكون"، بأنها مجرد "سحر أسود" معاصر، في الإشارة إلى كثافة الأوهام وقوة التخبط وتضارب الإدعاءات واضطراب الضوابط العلمية فيه؟ وصدرت تلك الكلمات عن خبير يعمل في الشركة التي يتصدر الذكاء الاصطناعي اهتماماتها، بل أنها تضخ مليارات الدولارات فيه، وتوظف أرتالاً من العقول المختصة للمساهمة في بحوثه وتطويره؟ ماذا لو عرفت أنه قدم رؤية تلك الشركة العملاقة (وهي "غوغل"، لا غيرها ولا سواها)، في مؤتمر عالمي مختص بمنظومات تعلّم الآلات؟ ولنقل أيضاً أنه لم يكن فرداً وحيداً في تلك الرؤية، بل شاركه فيه آخرون من مستويات متقاربة، وضمن رؤى ظهر فيها شيء من التفاوت، ولكن بقيت تلك النبرة النقدية تربط بينها.

وأفردت مجلة "ساينس" العلمية الناطقة بلسان "الجمعية الأميركية لتقدم العلوم"، صفحات كثيرة لتغطية ذلك المؤتمر. ووفق "ساينس"، استُهِلَّ ذلك النقد للمسارات الراهنة في الذكاء الاصطناعي بورقة بحث قدمها علي رحيمي، وهو باحث في الذكاء الاصطناعي في شركة "غوغل".

وسبق لرحيمي أن ألقى في كانون أول (ديسمبر) 2017، كلمة أمام مؤتمر مختص بالذكاء الاصطناعي، تضمنت نظرة بانورامية واسعة على ذلك الحقل، وصفق له الحضور واقفين لقرابة 40 ثانية. وآنذاك، انتقد رحيمي معادلات/خوارزميات تعلّم الآلات (وهي تمثّل القلب في حقل الذكاء الاصطناعي) بأنها صارت أقرب إلى أعمال "السحر الأسود" Black Magic، خصوصاً أنها تستند إلى التعلّم تجريبيّاً عن طريق الخطأ و/أو الصواب.

ويشير مصطلح "السحر الأسود" إلى نسق من الإدعاءات الزائفة التي كانت تسمّي نفسها "علماً" في القرون الوسطى وماقبلها، وتدعي العمل على تحويل جوهر المواد، كتحويل الحجر إلى ذهب أو صنع "الإكسير" القادر على إعطاء الإنسان الخلود وشفائه من الأمراض كلها!

وبتشبيهه ذكاء الآلات بـ"السحر الأسود"، قصد رحيمي أن ذلك الحقل من المعلوماتية المعاصرة لم يصل إلى مرحلة العلم فعلياً، بل هو أقرب إلى إدعاءات السحرة في الأزمنة التي سبقت تبلور العلوم الحديثة! وشدّد على أن خبراء تعلّم الآلات يستعملون خوارزميات لا يعرفون أيها الخطأ، وكذلك لا يملكون معايير دقيقة لتمييز نسق الذكاء الاصطناعي الأكثر دقة من غيره.

الرؤية بعين مدقّقة
توسّع رحيمي في الموضوع نفسه عبر ورقة بحث مُدقّق قدمه في ربيع السنة الجارية أمام "المؤتمر الدولي لتعلم الآلات" الذي استضافته كندا. واستناداً إلى عمله مع فريق علمي في "غوغل"، عرض رحيمي أمثلة موثقة عما رأى الفريق أنه "سحر أسود" معاصر في الذكاء الاصطناعي، كما قدّم وصفات بديلة تساعد على تعزيز الدقة العلمية في تعلم الآلات. 
وأشار رحيمي إلى ما سماه "معاناة مؤلمة" يكابدها خبراء الذكاء الاصطناعي حاضراً ترجع إلى إحساس منتشر بينهم بأنهم يتعاملون مع تقنية تكاد تكون غرائبيّة! وأوضح أن ذلك يرجع إلى أمور من بينها الاضطراب المنتشر حاضراً في ممارسات نشر الأعمال والبحوث المتصلة بالذكاء الاصطناعي.

وكذلك تتضمّن "المعاناة المؤلمة" مشكلة اخرى هي صعوبة "تفسير" طرق العمل في حقل الذكاء الاصطناعي، ما يجعله أقرب إلى كونه "صندوقاً أسوداً". وقصد رحيمي من ذلك القول بأن الخبراء باتوا لا يعرفون الآليات التي توصل معادلاتهم/خوارزمياتهم إلى استنتاجاتها، ولا مدى صحة تلك الآليات أو الخوارزميات، كما يفتقدون إلى معطيات تمكن من معرفة أي منظومة من الخوارزميات يمكن الركون إليها فعليّاً.

في ذلك المؤتمر العلمي نفسه، تبنّى خبير الذكاء الاصطناعي فرانسوا شوليّه (يعمل في "غوغل" أيضاً) وجهة مماثلة لتلك التي عبّر رحيمي عنها. وشبه ممارسات مختصي الذكاء الاصطناعي بالمعتقدات الخرافية عن تعويذات سحرية وأرواح تجلب ثروات! 

وضرب شوليّه مثلاً على ذلك بميل الخبراء الى تبني تقنيات تحسّن "معدل التعلم في الذكاء الاصطناعي"، لكنها تشبه طرق تدريب الحيوانات المنزليّة الأليفة، بمعنى اعتمادها على النسبة التي يصحّح فيها برنامج ما نفسه بعد ارتكاب خطأ ما، من دون تفهم فعلي للسبب الذي يجعل برنامج أفضل من الآخر. وفي حالات اخرى، وفق شوليّه، يبدو خبراء تعلم الآلات ببساطة كمن يتخبط في الظلام. إذ يعتمدون اسلوب التدرج الإحصائي المستند إلى الزمن، كوسيلة لتخفيض الخطأ في مؤشرات برامجهم. على رغم ذلك، لا تزال تلك الطريقة معتمدة على تجربة الخطأ والصواب.

وتقاطع رأي شوليّه مع ما ذهب إليه رحيمي أيضاً بإشارته إلى أنه في غياب المعرفة العميقة بالوسائل الأساسية اللازمة لتركيب (بمعنى ابتكار وتدريب) منظومة جديدة من خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بات الخبراء يصطنعون ما يشبه الادعاءات الواسعة المرتجلة، على غرار ما كان يفعله ممارسو "السحر الأسود" في العصور المظلمة.

وألقت ورقة بحث رحيمي الضوء على جهود ضائعة وإداءات أقل من المستوى، متصلة بالمستوى الحاضر في الذكاء الاصطناعي. وضربت الورقة مثلاً عملياً على ذلك في حقل الترجمة. إذ وثّقت أنه في معظم الحالات، عندما عمد خبراء إلى حذف الأجزاء "المتقدمة" المضافة إلى النواة الأساسية في برامج للترجمة بالذكاء الاصطناعي، كانت النتيجة أن البرامج الأبسط أعطت ترجمات أفضل! واستطراداً، يعني ذلك أن صُنّاع البرامج "الأذكى" لا يعرفون ما الذي تؤديه فعلياً تلك الأقسام "المتقدمة" في برامجهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها