يركز الفيلم على تجربة المعتقلين اللبنانين المسيحيين الذين اعتقلهم النظام السوري عام 1987، والذين أسسوا بعد خروجهم من المعتقل جمعية "المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية". وإن كان الشق السوري غائباً عند الحديث عن المعتقلين طوال مدة الفيلم، إلا أن الفيلم ينجح ببراعة في إيصال الوحشية التي يتعامل بها النظام السوري في سجن تدمر مع المعتقلين هناك، عبر تركيزه على قصة واحدة بوصفها نموذجاً لكل ما يجري في السجن مع جميع المعتقلين هناك، المضحك المبكي هنا أن النظام السوري ينشر نوعاً من المساواة في التعذيب بين الجميع، بغض النظر عن جنسياتهم أو هويتهم أو التهم الموجهة لهم.
لم يقدم الفيلم أي جديد من ناحية المعلومات المتداولة عن سجن تدمر، فقصة المعتقلين اللبنانيين معروفة سواء في الكتب التي سردوا فيها تجربتهم داخل أسوار المعتقل أو في مقابلاتهم والأفلام الوثائقية التي صنعت عنهم في السابق، لكن قيمة الفيلم الحقيقية تكمن في نقطتين، الأولى هي تزامنه مع الضجة العالمية المثارة حول معتقلات النظام السوري إثر تقرير منظمة العفو الدولية مؤخراً حول سجن صيدنايا الذي كشف للمرة الأولى عن 13 ألف عملية إعدام ميداني خلال السنوات الخمس الماضية هناك، والثانية هي الطريقة المبتكرة التي تم تنفيذ الفيلم عبرها بطريقة تدمج المشاهد في القصة كانه يعيش أحداثها ولا يتابعها عن بعد باسترخاء من منزله.
ويعتمد الفيلم على تجسيد قصته درامياً، بطريقة الديكوردراما، حيث بنى أبطال الفيلم في مدرسة مهجورة قرب العاصمة بيروت، مسرحاً يمثل سجن تدمر كما يتذكرونه وعاشوا فيه سنوات طويلة، وتناوبوا طوال الفيلم على لعب أدوار الضحية والجلاد، "بعدما عقد أفراد المجموعة العزم على الإفراج عما مروا به من محنة سداها التعذيب اليومي ولحمتها الإذلال المنهجي"، حيث تشكل قصتهم المؤثرة بنجاتهم من الموت هناك الاستثناء فقط.
وهنا كانت اللقطات البطيئة جداً والكاميرا التي تتوقف لثوان متتالية من دون أي حركة، أو تركز في لقطات قريبة جداً على وجوه أبطال الفيلم، خياراً مثالياً ومقصوداً لكونها تمثل الرعب والبطء الذي يحكم حياة المعتقلين في سجن تدمر، حيث تمر الثواني على المعتقلين، في زنزانتهم الضيقة وهم محكومون بالتزام بلصمت وانتظار جلسة التعذيب التالية. كما كان رصد التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية من تناول للطعام والنوم وتنفس الهواء وغيرها، إضافة لمشاهد التعذيب المؤلمة والضرورية، شديد التأثير لكونه يمس الحياة البشرية الأساسية نفسها لدرجة تجعل المشاهد يكاد يختنق وهو يتابع هول الوحشية التي يفرضها النظام السوري في معتقلاته ولدى جلاديه وسجانيه كوحوش بشرية تقتات على الدم وصرخات الألم.
وتوثق مؤسسة "أمم" الحقوقية اللبنانية المنتجة للفيلم في تقرير مستقل لها، أن هناك 782 لبنانياً في السجون السورية، فيما تقدر منظمة العفو الدولية أن السجن اعتقل أكثر من 20 ألف مواطن سوري بين العامين 1980 و1990، ولا توجد معلومات دقيقة عن أعداد السجناء والقتلى هناك، حيث تستند التقريرات إلى شهادات الناجين القلائل الذين خرجوا من السجن وهم على قيد الحياة، كأبطال الفيلم تماماً. ومع ذلك تم تصنيف السجن من قبل منظمات دولية باعتباره الأسوأ بين عشر معتقلات ذائعة الصيت في العالم مثل سجن كارنديرو البرازيلي وبياتلك الروسي وكوانغ بانغ التايلاندي.
المخجل والمؤسف هنا أن النظام السوري استمر في تنفيذ أعماله الوحشية واقتراف الجرائم ضد الإنسانية على الرغم من التقارير الدولية الكثيرة التي تناولته سواء في الأمم المتحدة أو عبر المنظمات المستقلة، ورغم أن سجن تدمر بات من الماضي تقنياً بعدما فجره تنظيم "داعش" إلا أنه يشكل نموذجاً لحالة المعتقلات السورية التابعة للنظام اليوم، والتي يديرها بوحشية من أجل اعتقال الأصوات المعارضة له، تحديداً بعد الثورة السورية في البلاد العام 2011 والتي طالبت بالحرية من النظام الأمني القمعي.
ولا يمكن سوى التفكير أنه لو وضع حد لانتهاكات النظام السوري منذ العام 2001 عندما صدر تقرير منظمة العفو الدولية عن سجن تدمر، ربما لم نكن لنصل إلى التقرير المروع الآخر للمنظمة نفسها عن سجن صيدنايا العسكري قبل فترة قصيرة. وقد يكون ذلك لما قاله النظام السوري حينها عن إغلاقه السجن رسمياً، ضمن المحاولات الدعائية حينها لرسم صورة لطيفة لبشار الأسد، الرئيس الجديد عن والده الدكتاتور البعثي المشهور بعنفه، لكن تلك الأقاويل لم يتم التأكد منها أبداً بعدما منع النظام كافة منظمات حقوق الإنسان بزيارة السجن، والمؤكد أن السجن عاد للخدمة بعد الثورة السورية.
في ضوء ذلك، يشكل الفيلم جزءاً من جهود عامة يسعى لتوثيق أحوال المعتقلين السياسيين والمغيبين قسراً في معتقلات النظام منذ انطلاقة الثورة السورية، وهو بتركيزه على المعتقلين من حقبة الثمانينيات يربط الماضي مع الحاضر لرسم سياق وحشية النظام الممتدة لأكثر من أربعة عقود، والتي ثار السوريون من أجل التخلص منها، والتي لا تشكل اليوم في كل تجلياتها من حرب ضد المدنيين واعتقال وعمليات تعذيب وغيرها، سوى امتداداً طبيعية لنفس العقلية الاستبدادية الحاكمة هناك.
يذكر أن سجن تدمر استحدث في عام 1966 قرب مدينة تدمر في الصحراء السورية، وهي المدينة الشهيرة بآثارها التاريخية، واستخدم في البداية بعد نهاية فترة الانتداب، كسجن العسكريين المتهمين بارتكاب جرائم جنائية عادية، ومع استيلاء حافظ الأسد على السلطة بانقلاب عسكري شامل مطلع السبعينيات، تحول السجن إلى معتقل يزج فيه بعض المعتقلين السياسيين لفترات طويلة نسبياً، واعتباراً من العام 1979 بدأ النظام السوري بإرسال أعداد أكبر من السجناء السياسيين مع فصلهم عن السجناء العسكريين. وكان السجن يخضع لإدارة الشرطة السياسية، وهي قوة أمنية تابعة لوزارة الدفاع لا وزارة الداخلية كما كان بعيداً عن صلاحيات وزارة العدل التي تجري عمليات تفتيش للسجون المدنية، مع وجود قوة من الوحدات الخاصة مهمتها حراسة السجن.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها