الإثنين 2016/02/22

آخر تحديث: 20:02 (بيروت)

محاكمة أحمد ناجي: لماذا يُحبس الخيال؟

الإثنين 2016/02/22
محاكمة أحمد ناجي: لماذا يُحبس الخيال؟
increase حجم الخط decrease
في الوقت الذي تقضي الدولة على الحياة –لا الحياء- يقضي أحمد ناجي عقوبة بسبب رواية رأت نفس الدولة أنها تخدش الحياء العام.

الغرابات في القضية أكثر من أن تحصى، فليس من المعقول أن يصدر حكم الدرجة الثانية بأقصى عقوبة تعقيباً على حكم براءة من الدرجة الأولى. جرى العرف القضائيّ أن "الاستئناف" يكون إما لتخفيف العقوبة أو إلغائها، أي أنها محطة الأمل الأولى للمحكوم عليهم قبل "النقض"، وفي هذه القضية لم تتغير الأدلة، حيث أن الدليل الوحيد هو الفصل المنشور من الرواية في أخبار الأدب.

وهذا هو الحكم الأول من نوعه في تاريخ مصر الحديث بحبس روائي بسبب عمل إبداعي. حالات حبس المبدعين كثيرة لكن جميعها كانت لأسباب خارج الفكرة الإبداعية ذاتها، إما لجدل سياسي أو جرأة على المقدس الديني خارج "النص". لكن للمرة الأولى يحدث أن يُحبس روائي على روايته "فقط" بل على فصل منشور منها في جريدة متخصصة. والغريب أن الرواية حاصلة على موافقة الرقابة حيث إنها طُبعت في لبنان ثم جاءت إلى مصر، ولا تدخل الكتب عبر الميناء إلا بتصريح الرقابة. أي أنها رواية حصلت على موافقة الدولة وحوكم صاحبها على فصل منها.

وعلى كلٍ، لم يكن يوم المحاكمة نفسه عادياً، خصوصاً أن حكم البراءة من الدرجة الأولى كان تاريخياً ومشرفا بكل المقاييس، إذ أكد القاضي في حكمه "أنه من المقرر أن حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتوالد عنها ﻻ يجوز تقيدها بأغلال تعوق ممارساتها.. كما أن طرح الأفكار والآراء والمعتقدات علانية يجعلها مجاﻻ للبحث والتقيم من جانب المختصين، بل والمجتمع أجمع فيأخذ منها الصالح ويطرح الطالح". ولذلك ذهبت توقعات الدفاع أن يمر اليوم عاديا بإجراءات روتينية، لكن دولة الجنون قررت أن تقتاد ناجي إلى الحجز.

كل تفاصيل اليوم كانت تقود إلى نهايته الحزينة: يبقى أهم ما فيه ترصّد وكيل النيابة بحياة أحمد ناجي وكتابته، فاستدل بقصة قديمة على مدونة ناجي بعنوان "السنيورة" ومقال له نشر في بدايات العام الجاري بعنوان "سحر الألفاظ البذيئة". هذا التنقيب والبحث الدؤوب حتى يخرج من أرشيفه قصة ربما يكون ناجي نفسه قد نسيها. وكيل النيابة، بوقته الثمين الذي ندفع ثمنه من أموال الضرائب والموازنة العامة لما هو أكثر أهمية في بلد "تحارب الإرهاب" بحسب خطابها الرسمي، كرس وقته لتتبع روائي وما يكتبه على مدونته وصفحته الشخصية ليعرف من أين تأتي أفكار هذه "الشهوة الفانية واللذة الزائلة" كما كتب من قبل.

الحكم مرعب للجميع، اليوم كل مبدع مهدد أن يتم تأويل ما يكتبه على مزاج "الحياء العام" أي أنها عصا جديدة في يد من يريد البطش بالنخبة، في دولة ضد دستورها، دولة ضد مبادئها المؤسسة لها.

الغضب عام وثقيل، والحزن أكبر. لكن الرواية الخادشة للحياء العام نفدت طبعاتها من السوق ليُخدش الحياء على نطاق أوسع، بل إن طلبات الرواية بحسب دار "التنوير" على صفحتها وصفحات مواقع التواصل تجاوز المليوني طلب. الكل يبحث الآن عن خدش الحياء، ويتلمس طريق البذاءة. فالحكم الصادر بحق ناجي أضر الحياء العام، ألا يمكن أن يحاكم وكيل النيابة المتصدي للقضية بسبب إضراره بالسلم العام ومساهمته في الخدش؟

المسافة كبيرة بين ما يحدث مع أحمد ناجي وما حدث مع الشاعر الأميركي آلن غينسبرج العام 1957، حين مثل أمام المحكمة بسبب "بذاءة" قصيدته الأشهر "عواء"، لكن المحكمة قضت ببراءتها وصاحبها التي رأت أنه من حرية التعبير استخدام كل المفردات من دون الوقوف على أيها محتشمة وأيها بذيئة. بل وختم القاضي الأميركي حكمه التاريخي بقوله "وعلينا عند النظر في ما يدعى عليه بالفحش أن نتذكر المثل القائل "إنما يرى الشر من في عقله الشر".

وعليه فإن كان كتاب عواء بالأهمية الاجتماعية الكافية، وهو كتاب غير فاحش.. فإن ناجي الآن يواجه عصر ظلام جديد، وعقليات فاحشة مهجوسة بما حُرمت منه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها