الأحد 2015/12/13

آخر تحديث: 17:55 (بيروت)

في محاكمة أحمد ناجي.. صرنا من أصحاب "الصفراوات البالية"!

الأحد 2015/12/13
increase حجم الخط decrease
هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها قاعة محكمة. طوال الوقت، لدي صورة تلفزيونية وسينمائية عن المحكمة: الحاجب ينادي بصوت غليط جهوري "محكمة"، فنقف جميعاً بانتظار القاضي ومستشاريه ليجلسوا على كراسيهم. قاعة المحكمة ذات الأسوار العالية والطلة المهيبة... لا تشبه الواقع الذي أجربه للمرة الأولى!

دخلت المبنى المتهالك لمحكمة الجلاء، والذي يشبه أي مبنى حكومي بالٍ، بلون جدرانه الأصفر المترّب. داخل المبنى صراخ وبكاء لأهالي متهمين. أول ما شاهدته كان شجاراً بين زوجة متهم تصرخ في ضابط "احبسني، بس مش هامشي إلا لما أشوف جوزي، أنا واقفة هنا بقالي 4 ساعات.. حرام عليكم حرام عليكم!".. أسأل أحد أمناء الشرطة عن مكان قاعة المحكمة التي ستقام فيها جلسة محاكمة الزميل أحمد ناجي. أتوه داخل ممرات المكان حتى أجد بعض الوجوه المألوفة لأصدقاء ومعارف أتوا لحضور جلسة المحاكمة.

كنت شديد الحماسة، معتبراً نفسي طرفاً فاعلاً في القضية. أحمل معي أجزاء من كتاب الأغاني باعتبارها "أدلة براءة" في قضية خدش الحياء العام. وجدت المحامي والحقوقي ناصر أمين لأعطيه الكتب، وقد علّمت داخلها على حكايات بذيئة وألفاظ خادشة بعينها، بعد جولة دامت لأيام داخل كتب التراث من فقه وحديث وسرد، مدفوعاً بتخيلي عن كيف ستقرأها النيابة "المحافظة" وكيف ستكون صدمتها أمام هذه الألفاظ؟

بدأت وقائع الجلسة مبكرة عن موعدها نصف ساعة تقريباً، أي عند الحادية عشر والنصف صباحاً بتوقيت القاهرة. القاعة المتهالكة ضمّت صحافيين وكتّاباً من أصدقاء أحمد ناجي وداعميه. غرفة الحجز مليئة بمساجين "عاديين" يبدو عليهم الإنهاك في غرفة الحبس غير الإنسانية. حراس القاعة ينظرون إلى الحاضرين "ولاد الناس" كوجوه غير مألوفة في مثل هذه المحاكم.

نادى الحاجب على رقم القضية، والمتهمان طارق الطاهر رئيس تحرير "أخبار الأدب"، والصديق أحمد ناجي، ثم نادوا شهود النفي وهما الكاتبان الكبيران محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب ورئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق، والروائي صنع الله إبراهيم. النيابة وجهت لهما سؤالاً استفزازيًا: هل تستطيع أن تقرأ من "المقال" على الملأ على ما فيه من بذاءات؟

سلماوي قال إن المحكمة ليست مكاناً لقراءة النصوص الأدبية، كما أن قراءة فصل مفرد من رواية –وهي لست مقالاً- هو نزع من السياق. وهو تقريباً ردّ صنع الله إبراهيم نفسه، غير أن صنع الله بدا أنه على وشك الانفجار غاضباً في وجه رئيس النيابة، وكاد أن يقرأ بالفعل من الفصل المتهم لولا تدخل القاضي.

بعد الاستماع إلى الشهود، بدأت النيابة مرافعتها لأكثر من 35 دقيقة، وهنا فيديو مسجل لجزء منها. منع الحاضرون أنفسهم عن الضحك، إذ حوت المرافعة كل أدبيات الخطب الإسلامية، حتى ظن الجميع أنه سينادي في نهاية مرافعته: "وأقم الصلاة"! رئيس النيابة، حريص على تعطيش الجيم، على نسق يلتزم بالكلام المسجوع، ومفردات هي من أدبيات بالية لا يتلتزم بها إلا الخيال السلفي الكلاسيكي. وعلى الرغم من الاستمساك "الظاهري" بهذه اللغة التراثية، لم يكن نطقه سوى انتهاك لقواعد السلامة اللغوية، فلم يترك مرفوعاً إلا ونصبه، ومجروراً إلا ورفعه، ومجزوماً إلا وحرّكه. المرافعة/الخطبة هي عنوان خطاب محافظ، فيه من تناقضات الطبقة المتوسطة المعنية بالمظهر الأخلاقي لا متنه، حتى وإن كانت بنية هذه الأخلاق متهالكة مثل مبنى المحكمة، ومعيبة مثل لغة رئيس النيابة.

استوقفنا جميعاً –نحن الحاضرين- رغم رصف الكليشيهات اللغوية، اجتهاد رئيس النيابة في البحث عن مرادفات ومجازات، بذل جهداً كبيراً في نقلها من الأدبيات السلفية، حتى أنه أطلق على "أخبار الأدب" –كصحيفة صفراء في نظره- عبارة "الصفراوات البالية"، وهو التعبير الذي كان بطل الحديث الأساس بعد المحاكمة.

بعدما انتهت النيابة من مرافعتها، بدأ الدفاع (المحامي الأستاذ ناصر أمين) مرافعته، بهجوم حاد على السلطة المستبدة خارج رواق المحكمة، إذ رأى أن ما يحدث من محاكمة للخيال ليس سوى امتداد للمهزلة التي تحدث في الخارج. ثم انتقل بهجومه القانوني على النيابة العامة التي تسير في منطقها القانوني والأخلاقي على "قدمين من جهالة" كما اعتبر. غير أن اللقطة الأبرز في دفاعه، كانت حين استشهد بكتب التراث الديني والأدبي التي تستخدم الألفاظ التي تعيبها النيابة، ثم أطلق نكتته التي أضحكت القاعة: "لكني أرجو من رافعي القضية الذين أصيبوا بارتفاع ضغط الدم من جراء قراءة فصل رواية أحمد ناجي ألا يقرأوا كتب التراث حتى لا يصابوا بالضغط ثانية".

حينها بدا رئيس النيابة مرتبكاً غاضباً، وصاح في ناصر أمين: "أتحداك أن تخرج من كتب العلماء الأجلاء ابن كثير وابن القيم ما يعيب". حينها ابتسم ناصر أمين وأخرج نسخ الكتب وقال: "هذه هي الكتب يا سيادة القاضي راجعها بنفسك وانظر إلى ألفاظها".

ساعتان مرّتا على خطبة النيابة الدينية ثم مرافعة الدفاع، بعدما تأجّل القضية إلى يوم 2 يناير/كانون الثاني المقبل للنطق بالحكم.

مسافة من خيال بين لغة الكليشيهات الدينية للنيابة، والاستشهادات بما لم يُقرأ من كتب نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، إذ لا يُعرف أن هذين الاسمين تحديداً اتهما كثيراً بخدش الحياء ومخالفة الثوابت الدينية، وبين لغة أدب يحاول أن ينتج خيالاً جديداً ولغة أبعد من قوالب التنميط الدولتيه.

ربما يُبرأ ناجي، وربما يُغرم ماليًا. في كل الأحوال فقد اقتادته رغبته في تفجير اللغة من قوالبها إلى الوقوف أمام المحافظين على هذه القوالب. هل سيكون القاضي هنا على درجة وعي القاضي الأميركي الذي وقفت أمامه قصيدة "عواء" لآلن جينسبرغ العام 1959، وقال في حيثيات تبرئة صاحبها من تهمة خدش الحياء العام نفسها: "لكي نكون ديموقراطيين ومتحضرين في هذا البلد، لابد أن نقبل تنوّعنا واختلافنا وأن تبقى حريّة التعبير فوق الجميع"؟ الأيام ستخبرنا قريباً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها