الثلاثاء 2019/02/05

آخر تحديث: 22:08 (بيروت)

في وداع خادمة

الثلاثاء 2019/02/05
في وداع خادمة
increase حجم الخط decrease
اكتشفت جوي هذا المساء أن الحقيبة الصغيرة التي أحضرتها لا تتّسع للكمّ الهائل من الأمتعة والأغراض التي جمعتها خلال ثماني سنوات قضتها بيننا. تقلع طائرتها صباح الغد، كان علينا الخروج في الجوّ العاصف لكي نشتري حقيبة كبيرة بما يكفي. كنت أقود السيارة متسائلاً هل حقاً مضت ثماني سنوات؟ أشعر أحياناً أن جوي تعيش بيننا منذ الأزل، وبأنها تنتمي لمنزلنا أكثر من انتمائنا إليه، إذ لم يحدث مرة أن عدت ولم أجدها.


بلغت ابنتي سالي عامها الثامن منذ أسابيع قليلة، أي أن جوي حضرت إلى منزلنا بعد ولادتها، كنا بحاجة إلى من يعتني بسالي خلال غيابنا عن البيت في العمل طوال النهار. حالنا كحال العديد من اللبنانيين الذين يلجأون للإستعانة بخادمة أو مربية أو عاملة منزلية تعاونهم في أعمال المنزل أو تربية الأطفال. ولو أردت أن أضع توصيفاً لجوي لقلت بأنها فرد من العائلة.

مع انتشار العديد من الأخبار عن مشاكل يتسبب بها وجود عاملة منزلية في البيت، عن سرقات أو انتحار عاملات أو سوء معاملة من أصحاب البيت، فقد كان إحضار عاملة منزلية هاجساً كبيراً بالنسبة اليّ. حرصت منذ قدوم جوي على إعطائها كل وسائل الراحة كي تهتم بسالي بشكل جيد.

مع ذلك، ها هي تتخلى عنا ونحن في أمس الحاجة إليها، تاركة إيانا نتخبط في إعادة ترتيب حياتنا وإحضار فتاة أخرى بدلاً عنها وارتباكات تدريبها وتعليمها. كيف ستكون علاقتها مع سالي؟ ماذا سنفعل لو اكتشفنا أنها لا تحب الهررة أو تتعاني من فوبيا أو حساسية؟ ماذا سنفعل بالهر؟ أسئلة كثيرة دارت في رأسي عندما أخبرتني جوي قرار رحيلها.

عدنا إلى المنزل مع حقيبة كبيرة بما يكفي، جلسنا بصمت بينما توضب جوي أمتعتها يلاحقها الهر تشارلي. أحياناً أشعر بالحقد لقرار مغادرتها ثم أتذكر أن أخيها سيغادر الفلبين للعمل في قطر ولن يكون هناك من يهتم بوالدتها المريضة. كان قرار العودة خارجاً عن إرادتها.

أحدّث سالي كي أسلّيها عن الشعور بالفقد. تخبرني عن الهدية التي صرفت كامل مدخراتها كي تشتريها وتقدمها إلى جوي والرسالة المرفقة بها ثم تسألني إن كنا سنزور جوي في يوم من الأيام؟ فأخبرها أن المسافة بعيدة جداً. تسألني أين تقع الفلبين فأفتح خارطة العالم على هاتفي وأشرح لها عن تلك البلاد الغريبة، عن سحرها وجمال طبيعتها وعادات سكانها. تقاطعني فجأة وتسألني: "كيف ستكون الحياة من دون جوي؟ أنا أصلاً لم أعرف حياةً من دونها". أصمت.

كانت العاصفة قد انحسرت في الصباح، الشمس مشرقة. أستيقظ باكراً كالعادة فأجد جوي قد سبقتني إلى المطبخ. حضرنا القهوة وجلسنا نشربها سوياً، يقف الهر بالقرب منا يتناول طعامه. قامت جوي بأداء عملها الصباحي كالمعتاد ثم انطلقنا إلى المطار. طوال الطريق كان تفكيري محصوراً بالفتاة الجديدة القادمة في الغد وبكل ما سيترتب على ذلك من ارتباكات.

تعانقت جوي وسالي طويلاً عند الوداع الأخير، ذرفتا الكثير من الدموع، قدمت جوي لسالي عقداً وضعته حول رقبتها. حاولت أنا قدر المستطاع أن أحافظ على رباطة جأشي أمام ابنتي كي لا أزيد عليها قسوة الفراق. أتساءل كيف فارقت جوي عائلتها عندما أتت إلينا؟ بذات اللهفة والتأثر؟ ماذا ستفعل الآن؟ هل ستتذكرنا بعد مرور ثماني سنوات؟ هل ستعيش هائمة بين عائلتين ووطنين وانتماءين؟ هل ستتذكر سالي عندما ستنجب أولاداً لها؟ كيف يمكن لشخص شاركناه كل تلك الحميمية والذكريات وتفاصيل حياتنا أن يتحول فجأة لشخص غريب؟ مجرد مواطن فلبيني.

غادرنا المطار إلى شارع الحمرا، تسوّقنا بعض الملابس والألعاب، لعبة للهر تشارلي، أكلنا الحلويات، ثم ذهبنا نلعب في الحديقة. سالي كانت لا تكف عن الكلام مصرة على أن يظهر عقد جوي حول رقبتها واضحاً لكن يبدو أن الأمور جرت بسلام وسلاسة.

بين الحين والآخر كنا نضحك كثيراً. تناولنا طعام الغذاء في الخارج أيضاً، ذهبنا إلى مدينة الملاهي ولعبنا طوال فترة بعد الظهر، كنت أحاول قدر المستطاع أن أجعلها تنسى لكن سالي بدت مرتاحة وسعيدة، متشوقة لترى المربية الجديدة القادمة في الغد وعلى الرغم من بعض الوساوس في رأسي إلا أنني بدأت أشعر بالكثير من الإرتياح.

عدنا إلى المنزل في مساءً، كان خالياً تماماً، صمت مطبق عدا مواء الهر تشارلي، ركضت سالي وعانقته قائلةً: "لقد رحلت يا تشارلي، لقد رحلت". حملته إلى غرفتها وبكت، جلست على أريكتي أستمع إلى شهقاتها وكان المنزل خالياً تماماً…

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها