الخميس 2022/06/30

آخر تحديث: 15:28 (بيروت)

سترة ليدي ديانا لا تفنى..أهلاً بكم في الجميزة

الخميس 2022/06/30
سترة ليدي ديانا لا تفنى..أهلاً بكم في الجميزة
increase حجم الخط decrease
باستمرار، يتغيّر وجه العالم، ومعه عادات السّكان، ومنهم اللبنانيون في بيروت. ومع العِلم أنّ أسباب التّحولات لا تُحصى، وتنعكس في الصّعد الحياتيّة كافة، غدا مُلفتًا في المدينة بروز صيحة الألبسة الـvintage (العتيقة من الماركات العريقة)، كذلك أثواب الـrecycle (المُعاد تدويرها) وأحيانًا الـ upcycle (الّتي يتمّ وضع إضافات/ تعديلات عليها، فتُرفّع قيمتها من قطعة عاديّة إلى فنيّة، لا تتكرر). وفي حين يُفسّر الهدف الأساس من هذا التّوجه، أحياناً في إنقاذ الباقي من الطّبيعة المُحتضرة أصلًا، بعدما باتت صناعة الموضة السّريعة واحدة من أكثر الصّناعات تدميرًا للبيئة، يُضاف إليه عندنا ما نشهده من تضخّم مالي غير مسبوق.

ومن ذاكرة بعيدة، ينسحب حيّ الجميّزة طويلًا وضيّقًا ومتفرّعًا، شاهدًا على تقلّبات سكنيّة وتجاريّة متناقضة، قاطعًا معارك عنيفة، ومقطوعًا بتظاهرات لا تُحصى… حتّى يصبّ في ذاكرة قريبة، لم تندمل بعد، على انفجار الرّابع من آب 2020 الّذي عصف بالمدينة. في الجميزة اليوم، من السّهل على الرّواد رسم خريطة البوتيكات التي تعرض هذا النّوع من الأزياء، ويبدو أنّ مُطلقيها قدّ درسوا بعناية كيفيّة تبديد الصّورة الحزينة لبيع الألبسة المستعملة: فوداعًا لأكوام الأقمشة المجعدّة والّتي تنبعث منها روائح التّخزين، وأهلاً بالأجواء الشّبابيّة، يعززها نور الشّمس المتدفّق عبر الواجهات الزّجاجيّة والممتدة من الأسقف العالية نحو الأرض. ثمّ هل تذكرون تلك القمصان ذات النقوش الفوسفوريّة، الّتي كانت تثير السّخرية منذ أعوام قليلة فقط؟ ها هي هنا والآن معروضة كتُحف "ريترو"!

هنا، مثلاً، متجر يُطلق على نفسه إسمًا يعني "موجة جديدة"، لكنّ موجته هذه تعود عمليًّا إلى حقبة الثّمانينات والتّسعينات. يحاكي إلى حدّ ما، خطوط الليدي ديانا الّتي ما زالت صور إطلالاتها تشغل صفحات مجلة "فوڠ"، على الرّغم من رحيلها منذ أكثر من عقدين ولتمرّدها في حينها. وسيجد زوار المتجر، أو موقعه الالكتروني الذي يتوجه أيضًا إلى زبائن من مختلف دول الشّرق الأوسط، ملابس يقارب سعرها الألفي دولار على اعتبار أنّه تمّ البحث عنها حول العالم واختيرت لأنّها نادرة، خالدة وقابلة بعد للاستعمال.


يختلف الحال مع الوصول إلى متجر آخر انطلق حديثاً بشعار "ارتدي حواسك"، والذي يسوّق لبضائعه على طريقة لبنانيّة كانت قد راجت قبل الثّورة، حينما رُبط التأنّق تارّةً بأنواع ترفيه ممتلئة بالصّخب والبهرجة وطورًا بالغرائبيّة الجامحة.

والأمر مغاير عند متجر ثالث يطرح علامته التجارية كجزء من سلسلة علامات تابعة لمؤسسة غير ربحيّة، تسعى لتلبية حاجات مروحة من الفئات الاجتماعيّة، بهدف إرساء شبكة تنمية مُستدامة وواعية. والأرجح أنّ ديكور المحل قد صُمّم من هذا المنطلق، لذا تم الحفاظ على الحيطان والأرضيات التُراثيّة، ووُضعت مرايا عملاقة وأفّيشات أفلام قديمة داخل أطر مُذّهبة توحي بأروقة المسارح المخمليّة. كذلك، بإمكان متابعي صفحات التّواصل للمتجر أن يقرأوا شعار "شراء*بيع* تبرّع!".. أو "هيّا نحبّ مجددًا"، كأدبيات مستقاة من 17 تشرين، فيما تبدو الصّور الفوتوغرافيّة فنيّة وزاخرة بدلالات الحنين.

كعادتها، إذن: هي ليست بيروت واحدة، بل بيروتات مختلفات-متصالحات، ضمن جغرافيا محدودة- متفتّحة. هكذا، ثمّة بيروت تذكّر بعادات ربّات الجيل القديم، وكيف كنّ يعدّلن خياطة الفستان أو البنطلون الواحد لينقلن ملكيته من الأخوات والأخوة الكبار إلى الأصغر سنًّا. وبيروت ثانية، مستجدّة وربما مستنسخة عن الأصليّة، مثل بطاقة بريدية إكزوتيكية للأجانب، وأنتيكا للمواطنين، باهظة الثّمن كَونها مخصصة من أجل نُدرة تُعدّ صاحبة ذوق معيّن (niche) فتقصد مخابئ المدينة و"جواهرها" ولو في الزّواريب. وثمة بيروت العصية على الموت والإفقار، إنّما بأنوثة بالغة، بكامل الأناقة وبعض من الاعتداد. وبيروت رابعة، حالمة، سورياليّة، مثل عرض فنيّ حُسب له أنّ يحصد أمجاداً كثيرة، لكنّ الحرب عطّلته، فلم يخرج إلى النور. وبيروت خامسة- وليست أخيرة- لا ترى لنفسها سبيلًا للعيش إلّا إذا ما تبنّت قضيّة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها