الإثنين 2019/05/27

آخر تحديث: 20:14 (بيروت)

الطبقة العاملة لها الجنة

الإثنين 2019/05/27
الطبقة العاملة لها الجنة
increase حجم الخط decrease
عدتُ، في منتصف سبعينات القرن الماضي، من فرنسا، متسلحاً بشهادتين، واحدة في التصوير والأخرى في الإخراج السينمائي.
استغربتُ تهافت المدراء على استقطابي، مع غيري من الأكاديميين، سعياً للشللية الداعمة لنفوذ كل مدير على حدة.. وتساءلتُ: ألا ينتمون الى حزب وحيد أوحد مُوَحَّد، وليّ نعمتهم يأمرهم فينفذون؟ فلماذا هم متناحرون مشتتون، يسعى كل منهم إلى الاصطياد وحده دون العالمين أو القبر؟

كذلك تلقفتني أيادي أهل حارتي وآراؤهم المتضاربة، أحدهم أسمعني استغرابه: ما معنى أن يسافر واحد ست سنوات لبلاد برّا، ليرجع لنا مصور، شو قلة مصورين شمسيين عنا بالمرجة؟!". فصحّح له شاب قوله: "شيخنا، هذا مخرج كبير بالتلفزيون.. ردّ عليه الشيخ: أخرى وأدق رقبة، ما كبير إلاّ الشيطان، 75 سنة من عمري ولم أسمع هذه الكلمة! شو قلت لي بيشتغل؟؟". ضحك الحاضرون، وابتسمتُ أنا لهم، علّهم يفسحون لي المجال لتفسير ماهية مهنة الإخراج.
قررت أن أبدأ بإخراج فيلم أول لي، يفحم القاصي والداني، المدير والشيخ. ونزل عليّ الإلهام من الإعلان المُضَوّي على قمة جبل قاسيون (تحية لأبطال الانتاج في عيدهم)، وبما أن 1 أيار هو عيد العمال، وقد أصبحَ قاب قوسين أو أدنى، تقدمت إلى إدارة التلفزيون معرباً عن رغبتي في تحقيق فيلم عن أبطال إنتاج الذهب الأسود (البترول).

اخترتُ حقل نفط السويدية في بلدة رميلان، التابعة لمدينة الحسكة، والتي تبعد 700 كلم عن مدينة دمشق.

وهل هناك أجمل من فيلم أبطاله من مكونات المجتمع السوري، خصوصاً من يسكنون المنطقة نفسها، من السوبارتية والأكادية الآمورية والحورية والحثية والاشورية والآرامية والاغريقية والرومانية والساسانية والعربية والكردية؟

وصلنا، نحن مجموعة الفيلم، إلى مدينة الرقة البيزنطية، بعد ست ساعات من الاهتزازات المضنية، واستعدنا قوتنا بزيارة قصر العذارى الذي سكنه هارون الرشيد لمدة 12 عاماً.

توجهنا بعد ذلك إلى الشمال الشرقي، مروراً بطرق صحراوية، أرض بدائية عطشى ليست في لائحة الحياة. سألتُ طفلاً كان يرعى الأغنام، شاهدته بعد مرور ساعتين من مسيرنا على هذه الأرض القاحلة: لماذا لستَ في المدرسة؟ ردّ ضاحكاً: "أنا بدون"، فمازحته: "هل اسمك بدون؟"، فسخر مني وقال: "أنا بدووون". تدخّل هنا سائق سيارتنا وقال: "يا أستاذ بدون يعني هو كردي أو شخص ليس مسجلاً رسمياً"!! فقلتُ: "يعني بالمختصر هو بدون أوراق، وبدون اسم، وبدون هوية، وبدون... عقّب مصور الفيلم: أستاذ خلينا نكمل طريقنا بسلام الله يخليك".

وصلنا رميلان بعد 12 ساعة من مغادرتنا دمشق، وهربتُ من الزيارات الرسمية التي اُعلمني السائق أنها تتوجب عليّ لأخذ الرضا من المحافظ ومن رئيس اللجنة الحزبية.

تكلمتُ مع عمال، لا على التعيين، موضحاً أني هنا لمقابلة أبطال الإنتاج، فاستوقفني أحدهم قائلاً: "أستاذ بدك بطل حقيقي أم بطل مزيّف؟". ضحكتُ.أفهمته وأفهمني!
في صباح اليوم الثاني، أي يوم بدء التصوير الفعلي، طلبني المدير الإداري وقدم لي ثلاثة من الأبطال، شواربهم تدل على انتمائهم الحزبي، قمت بتصويرهم سريعاً وذهبنا إلى موعدنا لمقابلة رجل انتخب بطلاً للإنتاج، ولخمس سنوات متتالية، من دون أن يلتفت إليه أحد بشكل رسمي. كان عمره 58 عاماً، وكان نظره ضعيفاً جداً من أثر المواد السامة المحيطة بآبار النفط. وعلمتُ أيضاً أنه الوحيد الذي يستطيع أن "يطبب" أية حفارة إذا توقفت عن العمل.

قررتُ أن يكون هو بطل فيلمي كاملاً، ونسجتُ الفيلم على هذا الأساس، مصوراً إياه في أماكن مختلفة من آبار النفط، بدءاً من كشف ظروف العمال الصعبة للغاية، وانتهاءً بتصوير المطعم الصغير الذي يأكل فيه ألفان من العمال، راصداً 28 عاملاً يأكلون في صحن واحد من المربى (التحلاية)، بينما ينعم المهندسون والاداريون بمطعم بمساحة مماثلة، وعددهم لا يتجاوز الـ120.

طلبني المدير فور عودتي الى التلفزيون، للمشاركة في اجتماع للمخرجين السينمائيين الأكاديميين عنده.

دخلتُ مكتبه سعيداً بإنجاز مهمتي الأولى، وقبل أن أنبس ببنت شفة، سارع المدير قائلاً  للجميع: هه.. هي مأمون عاد من مهمته، وأنا على يقين أنه صنع فيلماً قريباً من أفكارنا ومنطلقاتنا، لأنه خريج فرنسا، ليس مثلكم، أنتم خريجي الاتحاد السوفياتي وأفكار البروليتاريا والطبقة العاملة.

ابتسم الأصدقاء لمعرفتهم بي، تماماً كمعرفتي بهم، أردتُ أن أقول: وللناس في ما يعشقون مذاهب.

لكن رنين الهاتف أخرسني، خصوصاً عندما بدأ وجه المدير يصفرّ ويصفرّ. لقد كان المخبر المتحدث على الهاتف، هو سائق مجموعة التصوير، يبلغه بفحوى المواد المشبوهة التي صوّرتها عن العمّال.

أنهى المدير الإجتماع وأصدر قراره بإتلاف المواد المصورة فوراً، وبذلك نلت شرف كوني صاحب الفيلم الوحيد، الذي لم يستطع حتى مخرجه مشاهدته.

ونال العمّال في عيدهم المجيد، وردة لكل منهم، من دولتهم الاشتراكية الموقرة، دولة العمال والفلاحين والطبقة الكادحة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب