الجمعة 2014/09/12

آخر تحديث: 16:31 (بيروت)

وجوه الحرب والسلم

الجمعة 2014/09/12
وجوه الحرب والسلم
من فيلم "ليالٍ بلا نوم" للمخرجة إليان الراهب
increase حجم الخط decrease
يُعرض في بيروت منذ الخميس الفائت، "ليالٍ بلا نوم" للمخرجة إليان الراهب التي قدمت مع هذا الشريط، عملاً لن يسقط بسهولة من ذاكرة السينما اللبنانية الحديثة، لأهميته على الصعيدين الفنيّ والسوسيولوجي. عودة جديدة الى الحرب، معالجة مختلفة لقضية المفقودين، نبش إضافي في مرحلة لا تزال تؤرق العالقين بين فكيّ الماضي والحاضر. فيلم الراهب كل هذا معاً، وربما أكثر.  
 
في الأصل، هناك رمز من رموز الحرب (1975 - 1990) يتحول أمام كاميرا متعنتة وفضولية وعنيدة إلى شخصية روائية، فيتجمع الفيلم بأكمله في نظرتها الحائرة إلى الماضي والضائعة إلى المستقبل. هذه الشخصية هي أسعد شفتري، المسؤول السابق في جهاز الاستخبارات التابع لـ"القوات اللبنانية"، الذي يتعين عليه أن يواجه مريم السعيدي، أمّ المراهق ماهر الذي انضم ذات يوم إلى صفوف الحزب الشيوعي. ومنذ معركة كلية العلوم في الشويفات العام 1983، لا جديد عنه، شأنه شأن الـ17 ألفاً ممّن ابتلعتهم الحرب وأهمل مصيرهم السلم الفولكلوري المزعوم. توقف الزمن عند مريم في السابع عشر من حزيران 1983، يوم خرج ماهر من المنزل ولم يعد، لكنه ما زال يناديها من عتمة الأحشاء. 
 
الفيلم ليس فقط حكاية هذه المواجهة. فهو من ميل اقتفاء لدرب التوبة الذي يسلكه شفتري منذ العام 2000 (تاريخ اعتذاره العلني عما ارتكبه في الحرب)، ومن ميل آخر رد اعتبار إلى الآلاف من الذين باتوا رقماً تقريبياً بلا وجوه وأسماء. عندما نتذكرهم، لا يتصّدر الذاكرة إلا رقم واحد: 17 ألفاً. ما تفعله الراهب عن حق هو استرداد القضية إلى فرديتها، والواضح أن ما تكتبه هنا هو التاريخ من وجهة نظر ثلاثة أشخاص، هي وأسعد ومريم، بعيداً من الرغبة في تقديم الأشياء باعتبارها الرواية الرسمية والنهائية. فنحن هنا أمام أطروحة إنسانية أولاً. 
 
لا ينتمي الفيلم إلى الصنف الوثائقي الخالص، فهناك إعادة تمثيل هنا وهناك، حدّ أن عملية التقاط المشاهد نفسها تتحول الى جزء من الفيلم. تشكيلياً، يواصل "ليالٍ بلا نوم" العمل الإبداعي الذي بدأه مع الشخصيات: صورة خريفية بديعة تصل إلى ذروتها الدرامية مع المشاهد في "فندق قادري" (زحلة) والأجواء الجبلية (تناوب على عملية التقاط المشاهد كل من جوسلين أبي جبرايل وميار الرومي). هذا كله يعزز القيمة الجمالية لفيلم لا يكتفي بأهمية المادة المطروحة، بل يرتقي بها.
 
الفيلم كله يتشكل من هذا اللقاء بين مَن يبوح ومن يصغي إليه، أيّ المشاهد. شفتري قتَل وخطَف وأمر بوضع سيارات مفخخة، اضطلع بدور المحقق والجلاد والقاضي - وفق ما يعلنه في الفيلم - قبل ان يعي تدريجاً، في تلك الليالي التي أمضاها بلا نوم، حقيقة ما فعله، فاقتنع بأنه سيكون "مجرماً مرتين"، إذا لم يجرِ مراجعة ذاتية لتجربته. هذا العلاج السينمائي، تتواطأ فيه الراهب مع شفتري، فتعطيه ويعطيها، في واحد من أجمل المفاوضات السينمائية بين مصوِّر ومصوَّر. تقتفي خطاه من مكان إلى آخر، ولا تتوانى عن طرده من سيارتها (في مشهد مخطط مسبقاً طبعاً)، عندما لا يعود يستجيب لها. 
 
تضطلع الراهب بدور المخرجة والمشاهدة في آن معاً، واضعة حاجزاً بينها وبين الأشياء في بعض الأحيان، ولكن هذا لا يمنعها البتة من أن تضعه في كل الظروف الممكنة ليدلي بشهادته، من دون "زوم إن" على وجوه الشخصيات في لحظة ضعف، وبلا أي ميل إلى اصطيادهم وجرّهم إلى محاكمة سينمائية. بيد أن كل شيء له حدود، حتى اعترافات شفتري التي تنقطع في اللحظة التي تصير تشكل خطراً على مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها. لكن، يمنحنا شفتري بعض التفاصيل التي تساعدنا في فهم الحرب وإدراك ذيولها على المستوى الجمعي، هذه الحرب التي لا تزال مقيمة في النفوس على الرغم من نهايتها الرسمية. ذلك أن لا الدولة ولا المجتمع قاما بواجبهما تجاه المشاركين في الحرب، من خلال استيعاب الماضي وتحويله قاعدة إنقاذية لإعادة بناء ما تهدّم.
 
ولأن الراهب سينمائية قبل أن تكون "مناضلة" يسارية، جعلت من المسكوت عنه في خطاب شفتري مادة روائية تتيح التخيّل. هذا يجعل أيضاً من شفتري، "أنتي هيرو" بامتياز، ينام في داخله مخرج مكبوت يريد جرّ الفيلم الى حيث يريد. صحيح انه تائب لكنه تائب بشروط، يتذكر التواريخ جيداً ولكنه ينسى الوجوه، ذاك انه لم ير يوماً اياً من الذين كانوا ضحاياه. "كان يأتيني الملف بلا اسم او صورة: عبارة عن اربعة اسطر عن المحكوم"، قال شفتري في جلسة لي معه.
 
يحيلنا هذا على موضوع الوجوه التي يزدحم بها الفيلم. تعلم الراهب ان رد الاعتبار الحقيقي للضحايا يتم عبر اعادة وجوههم الى المعبد، والمقصود بالمعبد السينما، هذا المكان الذي يخلّد الوجوه. لذلك تحتل الوجوه المساحة الأضخم من الفيلم؛ نراها في الصور الفوتوغرافية المصفرة، على جدران احد المعارض الهادفة الى التوعية، ونراها ايضا في وجهي كل من اسعد ومريم.
 
في واحد من أروع مشاهد الفيلم، تصطحب المخرجة شفتري الى المطران غريغوار حداد، القابع في مشفاه. كان المطران متعاطفاً مع الفلسطينيين خلال الحرب، ما جعله يصنَف في عداد الاعداء لما يسمى "القضية المسيحية". الفيلم يسمى بهذا المشهد، حاملاً نفسه الى مصاف آخر. ينال شفتري الحلة من المطران الأحمر، فيخرج من غرفته المثقلة بالخطيئة والاثم والغفران، تاركاً مأساته على وجه الرجل المريض. 

2-(1).jpg
إليان الراهب في مشهد من الفيلم
 
بين كل هذه الوجوه، هناك وجه مريم. مريم خلافاً لأسعد ليست شخصية كاريزماتية (على الأقل من وجهة نظري). هي تريد ابنها، ولا شيء سوى ابنها. ليس الاغواء اختصاصها. ابنها الحاضر بغيابه، هو سبب مشاركتها الوحيد في الفيلم. خلافاً لأسعد الذي ينظر الى الخلف، هي تريد ان تنظر الى الامام، لعل الأيام الآتية تأتيها بنبأ ما عن هذا الذي تنتظره منذ 30 عاماً بالتمام والكمال. في المشهد الذي تزور فيه سيدة اسمها عسيلي تريد مساعدتها، نكتشف كم أنّ البون شاسع بينها وبين محيطها، اذ لا مجال للتفاهم على أرضية "أطوِ الصفحة"، فلا صفحة من دون حداد، ولا حداد من دون رفاة. 
 
ملّت مريم الكلام الذي لا يُصرف على أرض الواقع. حتى الكاميرا تلتقطها بشكل مختلف: في حين يجري تصوير اسعد من خلف القضبان أو داخل الأفق الضيق، نراها هي واقفة على شاطئ البحر. اي في مواجهة تساؤلاتها المشرعة على كل الاحتمالات. اطلالة هذه الامّ المعذبة والمكلومة الأوصال حاجة في الفيلم، في حين اطلالة اسعد على الفيلم نوع من ترف. كل شيء بالنسبة اليه انتهى؛ أما هي فكل شيء بالنسبة اليها مرشح لأن يبدأ من جديد، حتى حلول اللحظة التي يضعها الفيلم امام الحقيقة المرة (حقيقة ندعوكم الى اكتشافها). مريم تأخذ الفيلم الى المنحى الإخباري، فهي تريد ان تَعلم. أما أسعد فيرد الفيلم الى السينما، ذلك انه يريد ان يفهم. بينهما، اي بين "سماوية" أسعد و"ترابية" مريم، تقف المخرجة، مقاومة الرغبة في ان تكتفي بالذهاب في اتجاه واحد. فينتهي بها الأمر في الذهاب الى كلا الاتجاهين. 
 
بيد أن واحداً من أهم الأشياء في الفيلم انه لا يرضي ايّ طرف في الصراع اللبناني / اللبناني، ولا يتحول الى ناطق باسم حزب او طائفة. طرف اول سيجد ان الفيلم تمجيد لشفتري، اذ يمنح اسباباً تخفيفيه لهذا الرجل الذي "اعتذر لانه لم يستطع ان يضع رجلاً داخل التشكيلات الحكومية". طرف ثانٍ سيدّعي ان الفيلم يحاول تصوير طائفة باعتبارها جلاد طائفة اخرى، وهذه قمة التبسيط والسذاجة والاستسهال (الرقابة طلبت الى المخرجة توضيح هذه المسألة في بداية الفيلم). من جهة اخرى، يحاول الفيلم ان يحدث قطيعة مع المنطق اللبناني التوافقي الذي يسعى دائماً الى اجراء توازن طائفي خشية على السلم الأهلي. "ليالٍ بلا نوم" ينسف هذا الارث، محاولاً استخراج الحياة من داخل الموت، الوعي من داخل الضمير النائم، الاستقرار من داخل الفوضى، المصالحة من داخل النزاع. 
 
 
"ليالٍ بلا نوم" ("متروبوليس"، VOX ــ فرن الشباك، "برايم ــ بلس").
 
increase حجم الخط decrease