الجمعة 2015/02/20

آخر تحديث: 13:18 (بيروت)

ليالي المدن: خريطة للحياة الليليّة في بيروت

الجمعة 2015/02/20
ليالي المدن: خريطة للحياة الليليّة في بيروت
كأنما شباب الفئات الوسطى تفتّحت في اجسامهم رغباتُ العيش، انتقاماً من ما فاتهم في الحرب (غيتي)
increase حجم الخط decrease
منذ انتهاء الحرب في لبنان مطلع تسعينات القرن العشرين وحتى اليوم، أخذت الحياة الليلية في بيروت تتوزع وتتنقل حائرة بين منطقة وأخرى، وبين شارع وآخر.

قبل الحرب كانت منطقة الزيتونة والفنادق الفخمة في عين المريسة، مركزاً رئيسيا للحياة الليلية البيروتية، حيث الحانات والمرابع والملاهي الليلية. وامتداداً من هذه الزيتونة كان للحياة الليلية حضورها في منطقة رأس بيروت وشارع الحمراء، حيث دور السينما ومقاهي الرصيف الأحداث، لاسيما في الروشة. هذا بعدما أخذت تتراجع وتعتق مرافق الترفيه والحياة الليلية ودور السينما في ساحة البرج (الشهداء) ومتفرعاتها في وسط بيروت ومركزها، منذ الستينات.

كسليك الثمانينات
في الثمانينات وحتى اواسط التسعينات، شهد شارع الكسليك القريب من المعاملتين وجونيه على ساحل كسروان المسيحي، طفرة حياة ليلية مزدهرة، بعدما دمّرت الحرب وسط بيروت والزيتونة والفنادق، وحوّلتها ملجأ للمهجرين الذين توزعوا في منطقة رأس بيروت كلها، بعدما كانت موطن الحياة الليلية والترفيهية والكوزموبوليتية البيروتية، الأرقى في لبنان والشرق الاوسط في الستينات والنصف الاول من السبعينات.

كان ازدهار حياة الليل في الكسليك والمعاملتين وجونية، من مظاهر تقطّع أوصال لبنان ومناطقه ومدنه، وقيام مراكز "مدينية" جديدة في المناطق المسيحية البعيدة من خطوط التماس الحربية في بيروت التي أخذت "نخبة" من ساهريها تقصد مرابع كسروان الليلية في أوقات من هدنات الحرب، بعدما ضيّقت الميليشيات المسيطرة والمتقاتلة في بيروت الغربية طوال الثمانينات، الحياة الليلية وقلّصتها في رأس بيروت، وخصوصا بعد ظهور "حزب الله"، وتفشّي خطف الاجانب والمسيحيين عقب ما سمّي "انتفاضة 6 شباط" 1984.

ففي النصف الثاني من ثمانينات الشطر الغربي من بيروت، انكفأت الحياة الليلية البيروتية الى عدد قليل من المرابع والملاهي في شارع المكحول الضيّق المتعرج، والذي جرى تفجير أحد مرابعه آنذاك، فيما أخذت الحياة الليلية تزدهر في العمق السكاني المسيحي، على ساحل كسروان، حيث درجت تسمية "المناطق الحرة" في حمى ميليشيا "القوات اللبنانية" المنظمة والمسيطرة، والتي كان يهمّها أن ينشأ في عمق مناطقها مركز للحياة الليلية، يستقطب متطلبات السكان وسواهم من الشبان المقاتلين، للترفيه والسهر، بعيداً من خطوط التماس الحربية. وقد يكون كتاب شارل شهوان "حرب شوارع" أصدق تعبير عن أحوال الشارع المسيحي واهواء مقاتليه، ونمط الحياة الليلية الناشئة على ساحل كسروان الثمانينات، وصولا الى بعض بلداته الجبلية القريبة.

ليل الكحول والصخب
في مطالع التسعينات، مع توقف الحرب وانتهائها، دبت الحياة الليلية سريعاً وبقوة في شارع مونو أسفل منطقة الاشرفية المسيحية، وحول جامعة القديس يوسف، غير بعيد من وسط بيروت القديم المدمر. وبالتوازي مع نهضة مونو الليلية، ظهرت بعض المرابع الليلية في أطراف بيروت، حيث تكثر المعامل والأرض الزراعية أو الخالية. ومن أشهر تلك المرابع ملهى ال"Bo18" الشهير في التسعينات، والذي أطلق نمطاً جديداً من الشهر الشبابي "المترف" والمغالي في حداثته الكحولية.

والحق ان النصف الثاني من التسعينيات وبدايات الألفية الثالثة، شهدا طفرة جديدة غير مسبوقة في نمط السهر الشبابي من الفئات المتوسطة. من السمات الجديدة لتلك الطفرة، الإسراف في احتساء الكحول والرقص على إيقاعات موسيقية صاخبة واستطالة أوقات السهر حتى قبيل الفجر بقليل. كأنما شبان وفتيات الفئات الوسطى اللبنانية، تفتّحت في اجسامهم ونفوسهم وتفجرت رغباتُ العيش وأهواء الليل، انتقاماً من ما فاتهم وحاصرهم في سني الحرب الطويلة، فهبوا يردمون تلك القطيعة أو الفجوة الزمنية التي عاشوها. كأن حمّى السهر ودبيبه في تلك الحقبة، كانا الوجه الآخر لحمّى الحرب ودبيبها، أو صدىً احتفالياً من أصدائها المبتعدة، ولطرد تلك الأصداء، عبر الإسراف في الليل والكحول والرقص الصاخب.

ليلان مختلفان
تُظهر المقارنة بين الحياة الليلية الشبابية في بيروت التسعينات، وتلك التي كانت سائدة في ستينيات وسبعينيات ما قبل الحرب، أن السهر والليل الشبابيين في الستينيات والسبعينيات، لم تكن الكحول حاضرة فيهما وطاغية، كحالها في التسعينيات وما بعدها. آنذاك، أي في الستينيات والسبعينيات، كان يغلب على الليل الشبابي ارتياد دور السينما ومقاهي الرصيف في شارع الحمراء. وقلما كان شبان وفتيات يرتادون ويرتدنَ الملاهي والمرابع الليلية لاحتساء الكحول، إلا في أعمار شبابية متقدمة، ومن بيئات اجتماعية محددة، وفي مناسبات خاصة، كأعياد رأس السنة وسواها من سهرات مناسبات ميلاد الصحب والكوبلات. وآنذاك لم تكن دارجة، مثلاً، عبارات "تعا نأخذ كأس"، "رايحين ناخذ كأس"، التي صارت على كل شفة ولسان ما بعد التسعينات. والأرجح أن ليل الكحول الشبابي شهد انطلاقته في مرابع وملاهي ساحل كسروان الليلية في الثمانينيات، وعاش طفرته الصاخبة مع انطفاء الحياة الليلية في الكسليك، وانتقالها الى شارع مونو في مطالع التسعينيات.

هجرات ليلية
لم تعمّر الحياة الليلية وتستمر طويلاً في مونو، فأخذت تنتقل شيئاً فشيئاً الى شارع الجميزة القريب، في مطالع الألفية الثالثة. قد يكون هذا الانتقال من علامات بحث جيل شبابي جديد عن حياة ليلية أقل صخباً. وفي الأثناء جرت محاولات كثيرة لإحياء حياة ليلية في شارع الحمراء، من دون أن يُكتب لها النجاح الفعلي، إلا قبيل قيام قوى 8 آذار باحتلال وسط بيروت الجديد طوال سنة ونصف السنة، ما بعد حرب تموز 2006، وما بعد الحملة العسكرية على بيروت في 7 أيار 2008.

قبل ذلك، أي منذ ما بعد العام 2000، بدأت تنشأ بعض المرابع والملاهي الليلية الصغيرة الجديدة، في محيط مجلس النواب في وسط بيروت الجديد. لكن هذه المرابع والملاهي سرعان ما أقفلت بعد حصول مضايقات للساهرين فيها، قامت بها عناصر من شرطة مجلس النواب التابعة للرئيس نبيه بري. وحتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما بعده بقليل، ازدهرت حياة ليلية سياحية بيروتية وخليجية في شارع المعرض وساحة النجمة وامتدادتها القريبة في وسط بيروت الجديد. لكن هذه الحياة سرعان ما انتهت نهاية مأسوية مع احتلال قوى 8 آذار ساحة رياض الصلح وبعض متفرعاتها، فأفقر شارع المعرض وساحة النجمة إقفاراً تاماً، ولا يزالان على حالهما حتى اليوم، لينتقل بعض من دبيب الحياة التي كانت فيهما الى أسواق بيروت الجديدة التي انشأتها "سوليدير" في مكان أسواق الطويلة، البازركان، الجميل، باب إدريس، وسواها في بيروت القديمة. أما الحياة الليلية الشبابية التي تقدم الكحول في وسط بيروت، فنشأت منذ سنتين أو ثلاثٍ مرابعها وملاهيها في شارع صغير للمشاة خلف مبنى صحيفة "النهار" الجديد في الوسط الجديد.

مار مخايل - الحمراء
تتركز الحياة الليلية البيروتية اليوم، ومنذ نحو سنتين أو ثلاث، في شارع مار مخايل، كامتدادٍ جديد لشارع الجميزة، وفي شارع الحمراء الذي نهضت حياته الليلية بقوة، وخصوصاً في ما سمي "زاروب الإتوال"، و"زاروب دانز"، وفي شارع المقدسي الموازي للحمراء. والنهضة هذه ساهمت فيها الثورة والحرب في سوريا، بعدما هجر الى بيروت وعَبَرَ فيها ألوف من الشبان والصحافيين والكتاب والشعراء السوريين والسوريات، الذين جعلوا من شارع الحمراء محجّة ومعبراً لهم أو محطة في إقامتهم البيروتية القلقة، وفي هجراتهم الى ديار الله الواسعة. ومنذ ما بعد العام 2005 والعام 2008، برزت ظاهرة جديدة في الحمراء ومتفرعاتها، تجلّت في إقدام بعض قدامى اليساريين على افتتاح حانات ليلية صغيرة، كيفما اتفق وبرؤوس أموال محدودة. فنشأت في هذه الحانات الصغيرة حياة ليلية "شبه يسارية" وشللية الطابع، ومن أعمار شبابية متقدمة أو ما بعد شبابية "عازبة"، ومتشعبة العلاقات والمصادفات الليلية، وغير مكلفة مادياً. أما الحياة الليلية الشبابية من أعمار صغيرة في الحمراء، فاستوطنت، أخيراً، في شارع المقدسي الموازي للحمراء.

في المقلب البيروتي الآخر تتركز الحياة الليلية الصاخبة، والأحدث في نمطها الشبابي، في شارع مار مخايل، حيث يكثر الشبان والفتيات من غير اللبنانيين (كما في الحمراء ايضاً)، مخالطين فتياناً وفتيات من الفئات الوسطى اللبنانية، والمسيحية منها خصوصاً. ولا تزال الحياة الليلية في مار مخايل تتمدّد مرابعها في اتجاه منطقة برج حمود والنهر، حيث يتكاثر سكن شبابي وطالبي من طلبة جامعة القديس يوسف غالباً، ومن العاملين والعاملات في المنظمات الدولية، ومنظمات المجتمع المدني المحلية.

ومن مظاهر الحياة الليلية وتمدّدها وهجراتها في بيروت، ظهرت أخيراً حانات ومرابع في شارع بدارو الموازي لأوتوستراد سامي الصلح، والمتصل بمستديرة الطيونة على حدود الضاحية الجنوبية لبيروت.

أما أبرز ما يميز الحياة الليلية البيروتية اليوم عما كانت عليه في الستينيات والسبعينيات، فهو انفصالها التام عن دورة الحياة في دور السينما ومواقيتها، وعن ارتياد مقاهي الرصيف، واستغراقها في الكحول.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها