الخميس 2015/04/16

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

رين متري: لا يريدون لنا تاريخاً واضحاً!

الخميس 2015/04/16
increase حجم الخط decrease
على أحرّ من الجمر، تنتظر المخرجة اللبنانية رين متري إجازة الرقابة من جهاز الأمن العام، لتكشف النقاب أمام اللبنانيين عن تفاصيل فيلمها السجالي "لي قبور في هذه الأرض". فهذا الشريط الوثائقي الذي انطلق في مهرجان دبي الأخير، عُرض أيضاً لعدد محدود من المشاهدين، الشهر الماضي، في إطار "أيام بيروت السينمائية".

شريط متري يستعرض، باختصار شديد، خوف الطوائف من بعضها البعض. خوف أفرزته المعطيات الديموغرافية الجديدة. في التحقيق الذي تجريه، نراها تنبش ذاكرة الحرب وتتصدى الى التقسيم الذي فرضته انطلاقاً من منظور الحاضر. بيد أنها لا تقف مع أحد، إيماناً منها بأنه كان هناك جلادون وضحايا في الطوائف كافة، على مدار أربعة عقود من الحرب الأهلية وغير الأهلية، لا بلّ يمكن القول بأنها تصب جام غضبها (المنضبط) على الجميع، وهذا ما قد يجعل الكلّ ضدها تقريباً.

أجلس مع رين متري في مقهى يطل على وسط بيروت الجديد، المفرغ من أي ذاكرة، فتروي انها من الحرب التي دمرت لبنان لا تذكر الكثير، تسكنها مشاهد قليلة كالرجل الذي جُرَّ على الزفت ثم رُمي عن جسر المعاملتين. خلال العرض اللبناني الأول للفيلم، فوجئت بالجمهور بعدما لازمها قلقٌ حيال النظرة الى الأشخاص داخل الفيلم. "لم أرد أن يشعروا بأنهم في دائرة التهمة، لا سيما الذين من أتباع القوات اللبنانية. لم أشأ أن يشكّل الفيلم إهانة لأحد، فلا بدّ في النهاية أن يطغى الانتماء على كلّ الاحتمالات الفنية. فوجئت بأنّ أحد القواتيين اعتبر أن الفيلم أنصفه. في هذا العمل، أضفيتُ الكثير من قلقي الشخصي وعدم ارتياحي. لا أشعر بالأمان هنا. ترى، ما مردُّ هذا الإحساس؟ هذا البلد المشرذم يشعرني دائماً انني غريبة فيها".

في نظر متري، الحرب بكامل تفاصيلها لا تزال قائمة، وهذا ما يشعر به الكثير من اللبنانيين في زمن الاستقرار المزيف الذي يمكن ان يتزعزع في أي لحظة، "ذلك ان الصفحة لم تُطوَ والحرب لم تنتهِ والجميع يشعر بأنّه الضحية، ولأننا لم نصل الى محاسبة الجاني ولا سوقه الى المحاكمة".

تاريخنا الحديث حافل بالعنف ولا نرى هذا العنف مباشرة في الفيلم، اذا تقدم متري على اختزاله في الشهادات والكلام، رأيٌ لا توافق عليه كثيراً: "في الواقع يتضمّن الفيلم بعض المَشاهد المؤذية، لا سيما المتعلّقة بالكارانتينا. وثمة في تل الزعتر جثث تحترق، ترددتُ قبل عرضها، ثم فعلت. الصورة مؤذية. أشبه بدمارٍ شامل. كلما استعدتُ صورة الفلسطينية أم محمد في برجا وهي تتكلّم على ابنها، ورأيتُ صورة علي، أبكي... الأرشيف الذي أستعين به هو صور مَن هم في حال هجوم وليس في حال دفاع. أصوّر المعتدي، علماً أنّ ثمة ضحايا في كلّ مكان. تحوّل الأمر في النهاية خياراً لاواعياً. الخيار الآخر هو وضع صور التهجير عوض صور الجثث. صور النزوح أكثر ألماً وذلاً من صور الموت".

عند الحديث عن الطائفية في لبنان، لا بد من تسمية الأمور بمسمياتها، بالرغم من الصوت المتصاعد في داخلنا الذي يقول: اخرج من هذا المنطق! أسألها: هل راودكِ هاجسٌ مماثل؟.. 
"بالطبع. راودني هاجس اللغة التي ينبغي أن أعبّر بها. كيف أتوجّه الى الآخرين من غير أن يحاسبوني على هويتي الطائفية. الأمر صعب. لازمني شعورٌ بأنّ المسيحي يظنني حليفة، والسنّي يراني مسيحية... إنه الواقع ولا مفرّ من مفرداته. أتذكّر سيدة سنّية من دوحة عرمون تملّكها الخوف بعد حوادث 7 أيار، تتحدّث عن سمير جعجع بفخرٍ وعزّة. حاججتُها بعد صدمة: لكنّه في الأمس ارتكب في حقّكم المجازر. كيف ذلك؟ بسرعة نسبتني الى الجهة الأخرى: إذاً أنتِ عونية! هكذا، يطاردكَ التصنيف في كلّ خطوة". يتملّكني الفضول لمعرفة كيف كان الفيلم ليُنجَز لو أنّ مخرجه سنّي أو شيعي. شئتُ أم أبيت (كما أقول في الفيلم)، أنا محسوبة على الطرف المسيحي. لا أستطيع الادعاء بأني ناطقة باسم البيئة الشيعية أو السنّية. المعضلة أننا وُلدنا وترعرعنا في مجتمعات مغلقة. في جونيه حيث أنا، لا شيعة ولا دروز ولا سنّة...".

والاستنتاج الذي توصلت اليه وهي تنجز الفيلم؟ 
"فوجئتُ بأنّ نظرية المؤامرة في أحيان قابلة لأن تُصدَّق. حتى نسيب غندور المنتمي الى "الجبهة الديموقراطية" في النبعة، قال إن اسقاط المسلخ تسبَّب باسقاط الدامور في المقابل. لماذا اخترتُ الدامور دون سواها رغم وجود أحياء مسيحية أخرى على الساحل؟ ثمة دائماً دوافع استراتيجية وراء كلّ هذا. السلاح حين يحضر يحسم كلّ شيء".

في النهاية، يحملنا "لي قبور في هذه الأرض" إلى طرح السؤال التابو: "هل يتطلب تاريخ لبنان إعادة كتابة انطلاقاً مما نجهله ومما يتعمّدون التعتيم عليه؟". بالنسبة إلى متري هذا أمر لا مفرّ منه. تقول: "لا يريدون لنا تاريخاً واضحاً. الشخص الوحيد الذي أرّخ مجازر 1860 وما عشناه من حرب، هو ربيع جابر. إنني ممن يحاولون فعل شيء. لا أدّعي قدرة توثيقية، لكنني أحاول. كلما كان الحديث عن تدوين التاريخ، تدخَّل كلّ طرفٍ وطالب بنسخته. لن نتوحّد حول حقيقة واحدة. منذ عامين حين حاولت لجنة، توحيد كتاب التاريخ، تظاهر طلاب الكتائب وتعرّضوا للضرب. رغم رفضي المنطق الذي نشأوا عليه، وجدتني أكنّ لهم التعاطف. هم أيضاً يريدون نسختهم. أرفض كتابة التاريخ وفق النسخة الكتائبية. وفي الوقت عينه أرفض أن يتولّى تلفزيون المنار هذه المهمة...".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها