الأربعاء 2015/12/09

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

من الشيوعية الى الحسينية

الأربعاء 2015/12/09
من الشيوعية الى الحسينية
من مسيرات "أربعين الحسين" في العراق (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في بدايات ظهور الحركة الإسلامية الشيعية الخمينية في لبنان وتحلّقها حول لسانها وخطيبها السيد محمد حسين فضل الله في مسجد الحسنين في بئر العبد، قبل سنوات قليلة من إعلان "حزب الله" بيانه التأسيسي إلى "أمّة المستضعفين في الأرض" من جامع الغبيري في ضاحية بيروت الجنوبية العام 1985، أخذ الصديق الروائي حسن داوود يتحدث عن رغبته في كتابة رواية يحاول أن يجسِّدَّ فيها حدسه الروائي عن الطبيعة الرحميّة الحميمة لعلاقة كل عائلة شيعية بأهل بيت النبي محمد وبفاجعة كربلاء وبالحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي. ومما ظلَّ الروائي الصديق يردده آنذاك، قبل أن يكتب روايته ويضيّعَّ مخطوطتها في باريس، قولُه إن صلة كل عائلة أو أسرة شيعية بأهل البيت يجسّدها شعور العائلة الرحمي الدفين بأن لديها حُسَيْنَها وزينبها الكربلائيين.

قبل ذلك بسنوات، أي في نهايات حرب السنتين في لبنان (1975 -1976) كان داوود قد أشار إلى السينمائي اللبناني مارون بغدادي بأن يحرص، في فيلم تسجيلي يعدُّه عن الجنوب وأهله وطقوس حياتهم اليومية، على تصوير مشاهدَ تتصل بالمجالس الحسينية الكربلائية التي يحييها الشيعة في ذكرى عاشوراء في مدينة النبطية الجنوبية. صُوِّر الفيلم وعُرض آنذاك في إطار المهرجانات الدعائية والدعوية لـ"نضال الحركة الوطنية اللبنانية" في حروبها العروبية والفلسطينية واليسارية على "الانعزاليين" اللبنانيين المسيحيين و"النظام اللبناني الرجعي العميل". وكان من مشاهد الفيلم الأبرز تلك التي صَوَّرت امرأة في النبطية تدعى حسيبة، اشتهرت بإنشادها الكربلائي العاشورائي في المجالس الحسينية في المدينة الجنوبية. هذا إضافة إلى مشهد آخر من الفيلم يصوِّر تصويراً متباطئاً موكب تشييع أحد "الشهداء الوطنيين التقدميين" الجنوبيين، فيما مطرب أو مغني "الحركة الوطنية" المعتمد آنذاك، مارسيل خليفة، ينشد قصيدة للشاعر "الوطني التقدمي" حسن عبدالله يقول مطلعها: "أجمل الامهات التي انتظرت/ ابنها وعاد/ عاد مستشهداً/ فحملتْ شمعتين ووردة/ ولم تنزوِ في ثياب الحداد". وأنشد خليفة في الفيلم قصيدة أخرى كان الشاعر عباس بيضون قد كتبها في العام 1973 أو 1974 عقب مصرع الشاب اليساري الغيفاري علي شعيب في هجوم مسلح مع مجموعة من رفاقه على بنك أوف أميركا في وسط بيروت التجاري بهدف إرغام إدارة المصرف على تحويل أموال للجيش المصري أثناء خوضه حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. ومما ورد في القصيدة وأنشده خليفة على خلفية تشييع الشهيد في الفيلم: "يا علي/ نحن أهل الجنوب/ حفاة المدن/ نروي سيرتك على أصفى البرك والأودية".

هذه القصائد وسواها التي أنشدها خليفة وتحوّلت بصوته مع الفيلم أيقونات ثقافية تعبوية حربية "وطنية وتقدمية"، لم يكن أحدٌ يحدسُ آنذاك بأنها سرعان ما ستمهِّد الطريق لثقافة عبادة الشهداء التي ستنبعث حسينيّة كربلائية عاشورائية وتنشقُّ انشقاقاً دموياً على صُنّاع الأيقونات السابقة ومروِّجيها وحزبهم الأكبر آنذاك: الحزب الشيوعي اللبناني الذي اغتالت مجموعاتٌ سرّية ظلامية لصيقة بالحركة الإسلامية الخمينية الوليدة، عدداً من قادته وكوادره في أواسط ثمانينات القرن العشرين. وخطفت عدداً من الرعايا الأجانب، منهم الباحث الشاب الفرنسي المستعرب ميشال سورا الذي قضى أو قُتل في معتقله من دون أن تظهر جثته في حرش القتيل في الضاحية الجنوبية، إلا في أواسط التسعينات. آنذاك كانت قد صارت النسوة "الزينبيّات" (نسبة الى السيدة زينب، شقيقة الحسين)، هنَّ "أجمل الأمهات" والأخوات الشيعيات اللواتي لا يخرجْنَ الى الشوارع إلا مُكْتَنَفَاتٍ بالسواد الكربلائي العاشورائي الدائم أو الأبدي، حتى "ظهور المهدي، عجّلَ الله فرجه"، "لئلا تُسبى زينب مرتين" في دمشق وسوريا الثائرة ضد الطغيان الدموي المدمّر لحافظ وبشار الأسد.

اليوم، ومنذ عشايا الذكرى السنوية لعاشوراء واربعينها المنصرمة قبل أيام في مشاهدها المليونية الكربلائية في العراق، لم تعد صورة الإمام الحسين تقتصر على كونه شهيداً مظلوماً في الأدبيات الحسينية لـ"حزب الله". بل تحوَّل قائداً عسكرياً وسياسياً في فيلم "وثائقي"  انتصاري عنوانه "التجربة العسكرية والسياسية للإمام الحسين"، وتبثه "المنار"، القناة التلفزيونية لمجتمع حزب الحروب الدائمة، "إحياءً لمحلمة الصبر والشهادة والإيثار"، وفقاً للإعلان التلفزيوني الدعائي والدعوي للأيام الكربلائية الراهنة. صوت المذيع في الإعلان يطلع جهورياً أسطورياً وتنبعث منه أصداء عالم ماورائي يُفترضُ أن تبثَّ في روع أهل مجتمع الحرب الدائمة المؤمنين رعباً خلاصياً أليفاً ومروعاً، فيما هو يقول لهم: "إلى أرض الطُّفُوفِ (جمع الطَّف الكربلائي)/ تَترحُ لهوفنا (جمع لهفة)/ وسيوفنا تسطعُ (أين الآن سوى في سوريا، نصرةً للأسد وقتلاً وتشريداً لأهلها؟)/ هيهات هيهات... (منا الذَّلَّة)/ فالوحي هنا والموعد دنا (في أرض سوريا طبعاً)/ والحسين سيّدُ الانتصارات (على من يا ترى سوى الشعب السوري؟)".

لكنَّ الشاعر اللبناني محمد العبدالله كان في رثائه شاباً جنوبياً قُتل في إحدى الغارات الإسرائيلية على قريته الجنوبية قبل بدء الحرب في لبنان العام 1975، قد كتب قصيدةً يخاطب فيها الشاب القتيل قائلاً له: "أَضربُ في رملك (أي أتبصّرُ في سيرتك فأرى أنك): كبرتَ على نواح الطَّفِ وتاجر عاشوراء". وها هم تجّار عاشوراء اليوم يُفرغون البلدات والقرى الجنوبية وأحياء ضاحية بيروت الجنوبية من شبّانها ليشاركوا في تدمير الديار السورية وقتل أهلها في حماية الطائرات الروسية وبتمويل من ولاية الفقيه الإيرانية. وبسبب انشغال "حزب الله" في مهمته المقدّسة هذه في سوريا، ترك لخَدَمِهِ في حركة "أمل" أن يزداد عددهم وتشتد عزيمتهم وشكيمتهم في الكثير من الأحياء الشعبية البيروتية. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها