الجمعة 2015/05/29

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

نبيل عيوش يعرّي مومسات المغرب ويواجَه بالشتم والاهانات!

الجمعة 2015/05/29
increase حجم الخط decrease
جديد نبيل عيوش، "الزين اللي فيك"، يشعل منذ نحو أسبوع مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الالكترونية في المغرب. منذ حَمَّل مهرجان كانّ مقتطفاً من الفيلم على الشبكة العنكبوتية والمغاربة مستنفرون أشدّ درجات الاستنفار. فمواطنهم المشاكس يصوّر في شريطه الروائي الطويل الخامس الدعارة المنتشرة في المغرب بأسلوب فجّ واستعرائي، فاضحاً المسكوت عنه في مجتمع يعتاش من الكذب والنفاق، ولا ينظر الى صورته في المرآة. حاله حال معظم المجتمعات العربية التي تؤجل القضايا المهمة الى ما بعد تحرير القدس. بيد أنّ الجميع في المغرب، حتى أولئك المثقفين، سمحوا لأنفسهم إبداء الرأي بفيلم لم يشاهدوا منه سوى بضع لقطات (عُرض للمرة الأولى عالمياً في قسم "اسبوعا المخرجين" في "كانّ").

بلغ التحامل على عيوش حدّ شتمه وقذفه بأحط الألفاظ. في مثل هذه الحال- طبعاً- تُستَحضر كلّ أدبيات التخوين ولا تغيب الاتهامات الكلاسيكية من مثل "متصهين" و"عدو الأمة الإسلامية"، وسواها من المفردات الجاهزة التي تعبّر عن المستوى المتدني للنقاش. ولعلّ أكثر أساليب الهجوم حقارةً هو التلميح الى يهودية والدة عيوش في مسألة لا علاقة لها بالدين، علماً أنّ هذا المخرج لا يحتاج الى درس من أحد في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وسجله السينمائي يشهد على ما قدمه للبلد العربي المحتل، إذ سبق أن أخرج "أرضي" في الأراضي المحتلة.


كتب أحد الشيوخ المغاربة كلاماً بذيئاً في حق عيوش، معتبراً إياه "منكراً" (وهذا إطراء عندما يأتي على لسان شخص مماثل)، علماً أنّ الشيخ المذكور هو من المقربين الى الشيخ المغراوي الذي أفتى بتزويج القاصرات اللواتي لم تتجاوز أعمارهن السنوات التسع! هذه الهستيريا الجماعية تكللت الاثنين الفائت بمنع الفيلم في المغرب "غيابياً"، مع أنّ عيوش لم يتقدم بعد بطلب إجازة عرض من السلطات المختصة. أغضب المنع المهمومين بقضية الحريات في المغرب، وقد يكون سابقة خطرة في بلد يتغنّى بأنه الأكثر انتاجاً للسينما عربياً بعد مصر.

مهموماً كان عيوش عندما قابلناه في تيراس "ماريوت" في كانّ غداة عرض فيلمه، بيد أنه ظلّ متمسكاً بالأمل. قال إنه سيفعل المستحيل كي يخرج الفيلم الى الصالات. كان هذا قبل إصدار قرار منعه من حكومة بنيكران العتيدة. الأمر الوحيد الذي كان يخشاه هو أن يُساء فهمه، مع قلقه أيضاً على البنات اللواتي مثّلن في الفيلم. مهما يكن، فـ"الزين اللي فيك" فيلم صادم يدنو الى حدود الاستفزاز، إذ أنّ عيوش اختار هذه المرّة معالجة القضية بالصدمة. صدمةٌ قد تُخرِج مواطنيه من السبات الذي هم فيه وتدعوهم الى رؤية الواقع بتفاصيله الكاملة.

هذه ليست المرة الأولى ينقّب عيوش في قضايا اجتماعية جدلية: فهو سبق أن صوّر ظاهرة أولاد الشوارع في رائعته "علي زوا"، ثم عرّج على موضوع التزمّت الديني في "يا خيل الله" من خلال الشباب الإرهابيين الذين نفّذوا تفجيرات الدار البيضاء العام 2003، والآن يحملنا الى مراكش، "مركز الدعارة" في المغرب وفق قوله، حيث أربع عاملات جنس يمضين وقتهن مع زبائهن السعوديين، ويعشن حياة الفسق والسهر والكحول. يتذكّر عيوش أنه عندما بدأ يجري تحقيقات استقصائية لكتابة سيناريو "علي زوّا"، كان الرأي السائد: "لماذا الفيلم عن ظاهرة أولاد الشوارع؟". لم يتقبّل الناس فكرة أنّ ثمة أولاد شوارع في المغرب. السيناريو نفسه تكرر عندما أراد تصوير إرهابيي "يا خيل الله". بالنسبة الى عيوش، توجد حقائق لا يريد المغاربة رؤيتها والاعتراف بها. من كثرة انتهاجهم سياسة النعامة واخفاء رؤوسهم في الرمال، سيطرت على هذا البلد العربي الأمازيغي الجميل ثقافة الانشائيات البليدة واللغة الخشبية. النكران هو الذي دفع عيوش الى اختيار الدعارة موضوعاً لفيلمه الجديد. يقول: "السينما الأميركية حافلة بأفلام معارِضة تمسك المجتمع وتخضّه. انظر كم أثّرت هذه السينما في المجتمع الأميركي. انظر الى الافلام التي ظهرت عن السود مثلاً. لا يمكن نكران هذا. بالتأكيد، عندما نطرح الأمور بهذه الطريقة، نواجه خطر ألا نلقى الاستحسان من الجميع. ولكن هل يكفي أن أواجه خطراً كي أقرر ألا أخوض مغامرة مماثلة؟ لا اعتقد ذلك".

لقاء عيوش أربع فتيات من مراكش شكّل صدمة له. جالسهن أياماً عدة وراح يدوّن شهادتهن المقترنة بتجربة حياتية قاسية. يحتاج دائماً الى هذا النوع من العمل الميداني، وإلا استعصي عليه اتمام فيلم. من الفتيات الأربع انتقل الى محادثة نحو 100 عاملة جنس. لكلّ واحدة من هذه الفتيات حكاية تختلف عن حكاية فتاة أخرى. كذلك بالنسبة الى الاسباب التي أفضت بهنّ الى ممارسة الدعارة. إحداهنّ وقعت في الفخ بعدما فُضّت بكارتها ووعدها شابٌ بأنه سيتزوجها. لسان حال الفتاة هنا: "ما دام المجتمع يعتبرني عاهرة، فسأكون عاهرة وأجني المال".

يعرّي عيوش إذاً ازدواجية المجتمع المغربي ولا يخاف من المسميات والألفاظ السوقية التي يستلهمها من بيئة العاملين في أقدم مِهن التاريخ. هذا جزء من خياره الذي يقوم على الطرح الواقعي. تحذو عناصر الفيلم هذا الحذو. قراره نشر الغسيل الوسخ وعدم تقديم أي مساومة على الصورة التي يرسمها للحياة الليلية والسياحة الجنسية. نتعرف تباعاً الى رندة ونهى وحليمة وسكينة. الأخيرة التي تضطلع بدورها لبنى أبضير بجرأة لم يسبق لها مثيل في السينما العربية، تعبّر عن النفاق السائد: تلبس الديكولتيه وتمتهن الدعارة بتمرّس وحنكة ليلاً، ثم نراها نهاراً تزور أمها وشقيقتها الصغيرة وهي تضع الحجاب على رأسها وتلبس الزيّ المغربي التقليدي المحتشم.


عندما قلتُ لعيوش إنّ الدعارة ليست حكراً على المغرب، بل هي مسألة عالمية ما من دولة وجدت حلاً لها، كان موقفه من الدعارة في بلاده أنّ ما يميز عاملات الجنس المغربيات هو قدرتهن على إعالة الآف العائلات. في رأيه، إنّ المال الذي تجنيه هؤلاء الفتيات لا يُصرَف على شراء الملابس، بل على دعم العائلة. "لذلك، شئنا أم أبينا"، يقول عيوش، "هنّ يضطلعن بدور أساسي في المجتمع المغربي. في المقابل، لا يلقين من هذا المجتمع سوى الاحتقار والذلّ والاهانات، حتى من أقرب الناس إليهنّ. بعضهن قلن لي إن عائلاتهن لا ترى فيهن الا محفظة أو بطاقة ائتمان لسحب الفلوس. هذا شيء في منتهى القسوة والحقارة".

يحمّل عيوش المسؤولية للمجتمع برمته، ولا يعفي العرب والأوروبيين الذين يأتون الى المغرب للسياحة الجنسية وشراء الذمم. يقول إنّ التخلص من النفاق والنظر في صميم المشكلة عملٌ جمعي. "الزين اللي فيك"، فيلمٌ ملتزم يدعو الى الاصغاء للفتيات العاملات في الجنس واحتضانهنّ بدلاً من رشقهن بالحجارة. فالرشق لا يعني سوى المزيد من العزلة والوحدة، ما يعود بالضرر على المجتمع برمّته. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها