السبت 2024/04/06

آخر تحديث: 11:39 (بيروت)

"ذاكرة أكتوبر": كراسة للثقافة مغلّفة بالأحمر

السبت 2024/04/06
"ذاكرة أكتوبر": كراسة للثقافة مغلّفة بالأحمر
ذاكرة الحرب قد تكون أساساً لتصوّر المصريين عن أنفسهم وقيمتهم
increase حجم الخط decrease
صارت الذاكرة، منذ عقد التسعينيات على الأرجح، صنفاً من صنوف التاريخ. بمعناها الجمعي، وعلى وقع الاهتمام المتنامي بمتاحف الذاكرة، واتساع حقل الدراسات المنصبة على الذاكرات المهمّشة والمقموعة والمنسيّة، قيّد لعصرنا أن يكون زمن الذاكرة. في هذا باتت الذاكرة مبحثاً منهجياً ومهنة، مثلها مثل التاريخ، تسير أحياناً في الاتجاه المضاد للتدوين الرسمي وأحياناً أخرى بالتوازي معه. على هذا المثال، قامت "دار المرايا" بالقاهرة هذا العام، بنشر كتابها "خمسون عاماً على حرب أكتوبر"، وهو المعني بمراجعة تواريخ اقتصادية واجتماعية وجغرافية لهذا الحدث المفصلي، ومعه نشرت كتاباً آخر عن الحرب ذاتها، بعنوان "ذاكرة أكتوبر: تجليات الحرب في الثقافة المصرية". والكتاب الأخير، كما يشي عنوانه، مُنصب على الذاكرة، وبالتحديد يتناول تمثلات الحدث التاريخي في التفاصيل والخطابات والصور والرموز الثقافية.

يحتوي الكتاب الذي حرره خالد منصور، على سبعة فصول، لسبعة من الباحثين والكتّاب تناولوا وجوهاً متنوعة من التجليات الثقافية، في محاولة لفحص العلاقات الجدلية بين تحولات السياسة والاقتصاد وبين الطرائق التي قدمت بها الحرب في حقول الثقافة والفن وصنعت بها ذكرياتها وذاكرتها. وفي هذا، يتعامل الكتاب إجمالاً مع الحرب بوصفها ظاهرة مركبة ومستمرة وذات تبعات طويلة المدى، كما أن ذاكرتها قد تكون أساساً لتصور المصريين عن أنفسهم وقيمتهم وقدراتهم بشكل محفز على الفعل السياسي، فهي أيضاً أداة في ترسانة السلطة لإضفاء الشرعية على سلطتها.

يقدم وليد الخشاب في الفصل الأول، المعنون "أكتوبر: عبور القناة وعبور الكوبري"، قراءة مفعمة بالأفكار الطازجة والمدهشة، وهو يتتبع لفظة أكتوبر نفسها، ودلالتها وفاعليتها وتحولاتها وتحوراتها وإزاحاتها الدلالية واستلاباتها، وكيف تعينت في صور مادية في جسور ومدن جديدة ومجلات ومنحوتات ومتاحف وخلافه. ولأجل تتبع لفظة بهذا الشكل التاريخي والدلالي، وهي عملية أقرب إلى تحليل الخطاب، يقوم الخشاب بموضعتها داخل مصفوفة لسانية مع الكلمات المنتمية للخطاب نفسه أو للخطابات القريبة، ومن ثم يقارن "أكتوبر" مع "العاشر من رمضان" (التاريخ الهجري للحرب نفسها)، ومع "بدر" (اسم خطة المعركة)، و"مايو" (تاريخ ثورة التصحيح الساداتية) و"يوليو" و"التحرير" و"النصر"، ويقارن بين ما تحمله من شحنات عاطفية وأيديولوجية، بالإضافة إلى دلالاتها الطبقية والدينية ومسارات توظيفها في الصراعات السياسية حينها ولاحقاً.

في الفصل الثاني، "المآذن العالية" يقدم محمود هدهود تاريخاً اجتماعياً محكماً ومكثفاً ومتشعباً للصحوة الدينية في مصر، والتي تصاعدت وتيرة ظهورها بعد حرب أكتوبر. وعلى خلاف القوالب الجاهزة، لا يلجأ هدهود إلى محك "الترييف" لتفسير الصحوة، بل على العكس يربطها بانتشار التعليم الجامعي في الريف بين عوامل أخرى عديدة. وبعد أن يتتبع كيفية تحول "موضة" الصحوة إلى ثقافة جماهيرية، بالتوازي مع ربطها بالقفزات التقنية في وسائل التواصل الجماهيري من الكاسيت إلى القنوات الفضائية والإنترنت، فإن الفصل يتجه إلى فحص الصحوة على مستوى الثقافة العليا. اللافت أن هدهود، يفرد في فصله مساحة للنظر في الصحوة قبطية، رافضاً اعتبارها مجرد ردّ فعل على مقابلها الإسلامي، ولذا يعود إلى جذورها التاريخية الأقدم والتطورات المتلاحقة للهيكل البيروقراطي للكنيسة ونظام تمويلها وإنتاجها الفني. وبين الصحوتين، نرى في الصحوة أيديولوجيا بديلة تملأ الفراغ الذي خلفه انقضاء الناصرية، ومنظومة أخلاق عملية مناسبة للتحول الرأسمالي بفرديته وتنافسيته واتساع فوارقه الطبقية... أخلاق، بعضها يمكن اعتبارها تكيفاً امتثالياً، وبعضها الآخر احتجاجياً وفر مظلة المواجهة الرئيسية مع السلطة السياسية.

في الفصول الأربعة اللاحقة، يتم تناول منتجات الثقافة بمعناها الأكثر تحديداً. حيث يقوم كريم جمال في فصل "الأغنية الوطنية: سجل الهزيمة والنصر" بفحص التغيرات التي طرأت على نصوص وألحان الأغاني الوطنية أثناء الحرب وبعدها، وصولاً إلى أوبريتات عصر مبارك. أما هشام زكريا في الفصل التالي المعنون "الحرب على الشاشة: من الهزيمة إلى الجواسيس"، فيقدم جردة شاملة للأفلام السينمائية وبرامج القنوات التلفزيونية أثناء الحرب وبعدها. وفي ذلك السياق يلفت نظرنا إلى استحواذ السلطات في مصر على المواد الوثائقية المسجلة أثناء حرب أكتوبر وحجبها، لتبقى أكتوبر محرومة من الوثيقة التاريخية، بكل صورها المكتوبة والمرئية. وبعد ذلك يقوم إسكندر عبد الله، في "الصورة لا تزال في رأسي: ثنائيات الهزيمة والنصر في سينما أكتوبر"، بتحليل تيمات مثل المرأة والشرف والعجز الجنسي والعلاقات الثلاثية في أفلام الحرب. وفي هذا، يتعامل مع الأعمال السينمائية بوصفها وثائق، لا للحدث التاريخي ذاته بل طريقة تمثيله، ولسياق إنتاجه وسياقات مشاهداته الكثيرة اللاحقة.

وفي الفصل السادس المعنون "انفرط القلب كالمسبحة: الأدب وحرب أكتوبر"، يقدم هشام أصلان مسحاً انتقائيا لبعض الأعمال النثرية والشعرية التي تناولت الحرب، ويخلص إلى عدم توفر جدارية سردية أو شعرية كبيرة خارجة من قلب الحرب، وحتى الأعمال القليلة التي تناولتها، ركزت على ملامح إنسانية كانت المعارك خلفيتها لا موضوعها الرئيسي. ويبدو من الفصول كافة أنّ ثمة ما يشبه الإجماع على تواضع المنتج الثقافي والإبداعي المرتبط بأكتوبر، بل، وأن بعضاً من هذا الإنتاج قام بقصد أو من دون قصد بانتزاع "الحرب" من الذاكرة الثقافية أو حجبها فيما كان يتناولها فنياً.

أما بخصوص الفصل الأخير، "تجوال في دهاليز الذاكرة"، فتقر كاتبته دينا عزت أنه لا يستوفي المعايير المنهجية لتدوين التاريخ الشفهي، وهي تجمع فيه ومضات من ذاكرتها كطفلة عاصرت الحرب مع ذكريات آخرين، وتفعل ذلك بداية من كراسة "الأحداث" التي طلبت منها مدرستها أن تدون فيها أخبار الحرب أولاً بأول، وأن تغلفها باللون الأحمر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها