"فحم، حبر وحمار"، هو عنوان معرض الفنان العراقي - الهولندي صادق كويش الفراجي، المقام في غاليري "تانيت" (شارع أرمينيا، مار مخايل بيروت). والفراجي فنان متعدد الوسائط، عمل في الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والفيديو، إضافة إلى اهتمامات أخرى تشهد عليها عروضه ونشاطاته الكثيرة، في غير مكان وبلد.
عنوان المعرض مثير للفضول من دون شك، وتخصيص مجموعة من الأعمال لحيوان إرتبط اسمه، ظلماً، لدى الكثيرين بنظرة تحقيرية، لناحية مقامه في عالم البهائم، يجعلنا نقول إن تكريس سلسلة من الرسوم لحمار يُعتبر قراراً "شجاعاً"، لكنه ليس مستغرباً. إذ لو عدنا إلى زمن الإغريق، لظهر لنا شيء من مديح الحمار، في حوار أفلاطون المسمّى Phèdre، حين يتخذ الحمار صفة الخطيب الذي، في ظل خطاب يربطه بالحصان، تختفي طبيعة الحمار "الدنيئة". هذا، بينما يستنكر الفيلسوف صفة الحمار المختبئ تحت ثياب شبيهه، لأن مديحه كان اقتصرعلى حصان أصيل.
إلى ذلك، يمكننا أن نذكر ما قاله فرنسيس جيمس، الشاعر والروائي الفرنسي (1868- 1938) في هذا الإطار، حين كتب: "إنه يبقى في الإسطبل/ متعب وبائس/ لقد عمل بجهد/ هذا يُشعرك بالأسف/ لم يكن للحمار شعير/ لأن السيد فقير جداً/ لقد امتص الحبل/ ثم نام في الظل/ إنه حمار لطيف/ يمشي على طول الأشجار المقدّسة".
وكما هو معروف، فمنذ آلاف السنين ساعدت الحمير البشر في القيام بمهمات شتّى، بدءاً من حراثة الحقول، مروراً بنقل الأشخاص والبضائع، وصولاً إلى أشكال العمل الذي يحتاج طاقة وجهداً وصبراً كذلك، كما في عمليات البناء على سبيل المثال. هذا الحيوان المستأنس، كان رافق بداية تاريخ البشرية وتطوّرها، بحيث لا ينفصل تاريخ الحمير عنه، بل يتشابكان على نحو معين. هذا، من دون أن ننسى، في ما يخص الديانة المسيحية، كيف كان وجود الحمار ثابتاً في حياة المسيح، وهو الذي يدفئ يسوع في المغارة. وكما يفيدنا كتاب جيل لابوج، الصحافي والكاتب الفرنسي، عن "الحمار والنحلة"، أنه بعد الفرح المجنون للحمار في المغارة برؤية ولادة المخلص، تبتسم جميع الحمير عبر ثني شفاهها وإظهار أسنانها، إضافة إلى أن مريم كان قد امتطته عند هروبها إلى مصر، حين قادها يوسف إلى هناك.
ومع ذلك، ما زال يُنظر إلى الحمير على أنها غبية أو عنيدة، وهي تعاني سوء المعاملة والإحتقار. في معرضه الفردي "فحم، حبر وحمار"، شاء صادق كويش الفراجي أن يقدّم نموذجاً مختلفاً، وأن يعمل على تصحيح النظرة التقليدية، وذلك من خلال الاحتفاء بهذا الحيوان وتكريمه. إن المرجعين الرئيسيين للفراجي في هذا العمل الجديد يعتمدان، بطريقة متساوية، على النمو الحاصل في مدينة الثورة، إحدى ضواحي بغداد الفقيرة التي عرفها خلال طفولته، وما أعقب ذاك النمو من متغيرات إجتماعية، كما على بعض مجريات رواية جورج أورويل الخيالية "مزرعة الحيوان" (1945). يمزج الفنان بسلاسة ذكريات الطفولة التي بقيت في ذهنه، والمتعلقة بوجوده في الحي الشعبي محاطًا بالحمير، مع تصوير أورويل المجسم للحمار، الذي يبدو متشككاً ومعزولاً، ويرفض الانحياز إلى أي طرف في لعبة السلطة السياسية، التي ما زالت تدور رحاها في عراق اليوم. اللوحات الكبيرة للفنان لا تبدو، عمداً، على قدر واف من الجهوزية، وكأنها عبارة عن انطباعات، أو نوع من أنواع السكتش السريع، وهي منفذة بالحبر والفحم. يدرس الفراجي من خلال هذه الرسوم الحمار من زوايا مختلفة واقفاً وجهياً، أو جانبياً، أو في وضعية الراحة.
يتم تقديم الحمار في أعمال عديدة، وربما في معظمها، على خلفية فارغة، وكأن الفنان شاء التأكيد على رفض تلك "السخافة"، التي لا أصل لها في عبودية الحمار للبشر. هذا المفهوم يتكرّس من خلال الحجم التي تتخذه الخلفية، ويبدو فيها الحمار صغير الحجم نسبياً، وكأنه يسبح في بحر من الحريّة، على عكس فكرة العبودية الملتصقة به. أما الفكرة المتعلّقة بالجانب الاجتماعي والسياسة الطبقية، فتتسرب من خلال الاقتباسات الأورويلية (نسبة إلى جورج أورويل)، ومن خلال قرار الفراجي بإظهار حيوانات في غير مكانها (كما في عمله "حمار في محترفي")، فهم لا يعملون، لكن، بدلاً من ذلك، يمارسون إرادتهم الحرة بمهارة وهدوء. إلى جانب ذلك، ثمة رسوم منفّذة بالحبر، تبدو بدائية من حيث الأسلوب، يمشي فيها الحمار مع حمله الثقيل، وتتضخّم خطواته، لكنه يسير دائماً إلى الأمام، وكأنه يسير إلى جهة مجهولة.
"جميع الحيوانات متساوية" يقول الفراجي، ويضيف: "لكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها. هذا يثبت الصداقة الحميمة بين الإنسان وغير الإنسان، لكن الأهم من ذلك هو الاعتراف. لقد شبّه العلماء دور الحمار في رواية مزرعة الحيوانات، بشخصية أورويل المتغيرة، الحكيمة، وهو المتشكك الذي يشهد ويسجل الحياة". "الحمار"، يقول الفراجي، "هو أنا". وفي هذا الإعلان يكشف الكثير عن ممارساته الفنية وكيف ينظر إلى دور الفنان في المجتمع، أي كشخصية تشهد على ما يحدث وعين تسجل الحوادث لتعيد صوغها ضمن مفهوم ينبثق من شخصية الفنان ونظرته الخاصة.
(*) يستمر المعرض حتى 16 أيّار/مايو 2024 في غاليري تانيت – شارع أرمينيا، مار مخايل، بيروت.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها