السبت 2024/03/09

آخر تحديث: 10:47 (بيروت)

محمد عبلة: غوته المنبوذ في غزة

السبت 2024/03/09
محمد عبلة: غوته المنبوذ في غزة
محمد عبلة: "عدم المساواة والكلام عن الفلسطينيين كأنهم ليسوا موجودين، أمور تهز ضمير أي فنان"
increase حجم الخط decrease
"فخور أن يقترن اسمي باسم غوته"، يصرح الفنان التشكيلي المصري المعروف، محمد عبلة، بعد الإعلان عن منحة وسام غوته الألماني في العام 2022. وفي تصريحه إشارة عفوية ودقيقة إلى معنى التكريمات الرسمية وطريقة عملها في اقتصاد سياسي لرأس المال المعنوي داخل حدود الحقول الثقافية. الاقتران بأحد الأسماء المعتمدة كقامة في متن الأدب الأوروبي الحديث، بالطبع يضفي ألقاً معنوياً على صاحبه، وبالأخص حين يكون المكرّم من مجتمعات الجنوب العالم، حيث لا تزال منظومة تقسيم العمل الثقافي العالمية تولد القيمة المعنوية من الالتحاق بالمركز، في أوروبا وأميركا الشمالية، أو الانتساب إليه أو التماهي معه، أو في أفضل الأحوال نيل الاعتراف منه.

أتي هذا الاقتران الإسمي ممهوراً بتوقيع الدولة الألمانية، ممثلة في وزارة خارجيتها، حيث يعدّ الوسام أعلى تكريم تمنحه الدولة لغير الألمان لمساهمتهم في الحقول الثقافية والفنية، وأهم جائزة في السياسة الخارجية الثقافية لألمانيا. ترث الدولة القومية إنجازات مواطنيها النابغين في كل المجالات، بوصفها ملكية عامة، وبحسب التأميم الضمني للتراث الثقافي والفني، تعدّ الدولة صاحبة الحق الحصري في أسمائهم والهالات المتولّدة عنها. حين كرم عبلة في مدينة فايمار، قامت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بتقليده وسامه، في حضور وزير الشؤون الثقافية الألمانية بينيامين إيمانويل، طقوس التسليم تلك لا تحاول إخفاء طبيعتها السياسية الرسمية، وبشكل دقيق تضع التكريم في سياقه الحقيقي، السياسة الخارجية للدولة الألمانية.

في التصريح نفسه، أهدى عبلة فوزه إلى الشعب المصري، ويعبر عن شعوره بالفخر لأنه رفع اسم مصر عالياً، هو "أول فنان تشكيلي عربي" يحصل على الوسام، والأخير بين ثلاثة عرب حصلوا عليه. هنا، يبدو الفخر مزدوجاً، الاقتران باسم الكاتب الألماني الكبير من ناحية، والفخر باعتبار عبلة نفسه ممثلاً لمصر والعرب من ناحية أخرى. في شبكة التمثيل القومي المعولمة، يدرك عبلة أن اسمه هو أيضاً وإنجازاته الفنية وتكريماته وأوسمته ليست مجرد شأن فردي، بل هي زخر جماعي، يتوزع على سلم للانتماءات الوطنية والقومية.
 

"عدم المساواة والكيل بمكيالين والكلام عن الفلسطينيين كأنهم ليسوا موجودين، أو أنهم مش بشر ومش بني آدمين ده موقف يهز ضمير أي فنان ومثقف"، يأتي هذا الاقتباس من بيان لعبلة اصدره يوم الثلاثاء الماضي، ويصف فيه الموقف الألماني تجاه الحرب في غزة بالمشين، معلناً عن رده لوسام غوته. الصيغة الضميرية لفعل عبلة الاحتجاجي، لا تكتفي بالتأطير الفردي، فهو يلمح إلى واجب والتزام عام للفنان/ المثقف. هذا الدور يمثله عبلة بشكل نموذجي، وهو المشارك في ثورة يناير وعضو لجنة الخمسين لوضع الدستور بعدها، وهو أيضا مؤسس أكاديمية فنية في محافظة الفيوم ولمتحف للكاريكاتير بجهوده الذاتية بغرض حفظ تراث هذا الفن وإتاحته للآخرين، وبشكل أكثر محلية كان عبلة مشاركاً في احتجاجات أهالي جزيرة القرصاية ضد تهجيرهم لصالح استثمارات التطوير العقاري.

يأتي احتجاج عبلة الأخير موجهاً نحو السياسة الخارجية الألمانية تحديداً. وبهذا لا يعدّ الاقتران باسم غوته، مدعاة للفخر، بل للعار، بفعل الموقف السياسي للحكومة الألمانية ومؤسساتها، تلك الوارثة لاسم الكاتب الكبير والموظفة، والقادر على تلويثه. 

في يوليو/تموز 2014، تصف افتتاحية لمجلة "النيوزويك" الأميركية، القرن الحالي بأنه "القرن الألماني"، وهي تعدّد المؤهلات الألمانية، من نجومية منتخبها الوطني لكرة القدم إلى سياساتها الثقافية والفنية والبيئية، لتعلن أنّ "المستقبل سيكون مخططاً بالأسود والأحمر والأصفر"، أي بألوان العلم الألماني. في العام اللاحق، وفي خضم الأزمة المالية اليونانية، برزت الحكومة الألمانية في لعب دور رجل أوروبا الشرير، بفعل سلسلة من التصريحات غير الموفقة والمتعالية من الساسة الألمان، وحينها ظهرت تنويعات على وسم "قاطعوا ألمانيا" في موقع تويتر وتم تداوله بكثافة، مما دفع المعلقون للتعقيب بأن "أشباح الماضي تعود بشكل مدوٍّ".

كانت تلك بداية لسلسلة كارثية من أخطاء دبلوماسية القوة الناعمة الألمانية، تنتهي اليوم بتبديد الحكومات الألمانية لقسط كبير من ميراثها المعنوي، وبأن يصبح اسم غوته منبوذاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها