السبت 2024/03/02

آخر تحديث: 11:52 (بيروت)

"الاقتصاد السياسي للكرامة": غسان الحاج وغزة التي غيّرته

السبت 2024/03/02
"الاقتصاد السياسي للكرامة": غسان الحاج وغزة التي غيّرته
"غزة غيرتني، لكنّي أشعر أنّ هذا الجانب غير الأكاديمي منّي قد قدّم لكرامتي الكثير من الخير"
increase حجم الخط decrease
حين أصدر أستاذ الأنثروبولوجيا اللبناني الأسترالي، غسان الحاج، كتابه الأشهر، "الأمة البيضاء: خيالات التفوق الأبيض في مجتمع متعدد الثقافات" (1999)، تم استقباله في الدوائر الأكاديمية بوصفه أهم ما كُتب عن التعددية الثقافية في أستراليا في مطلع الألفية الجديدة، وسرعان ما أصبح واحداً من المتون المرجعية في نقد التعددية الثقافية. في تحليله لقلق البِيض من الأقليات غير الأوروبية في أستراليا في عقد التسعينيات بالأساس، لم يقتصر تركيز الحاج على دراسة الظواهر الأثيرة لدى باحثي "دراسات البياض"، مثل العنصرية المباشرة والتمييز والفاشية الجديدة، بل وبتبصر مبكر التفت إلى التعددية الثقافية بوصفها تجديداً لخيالات "الأمة البيضاء"، وكذا إلى توظيفها من أجل المحافظة على تفوق الثقافة البيضاء والقومية البيضاء.

كان توسع الحاج في توظيف مناهج ما بعد البنيوية الفرنسية، وبالأخص نظريات بورديو ولاكان في مساحات جديدة، أمراً لافتاً، لكن أكثر ما ميّز كتابه في الحقيقة كان النغمة المفعمة بالأمل لنقده لمجتمع التعدد الثقافي. على مدى أكثر من عقدين، قد ثبُتت بشكل تدريجي حصافة استشرافات الحاج بشأن قصور التعددية الثقافية وعقدة التفوق الأبيض الكامنة داخلها، وعكسياً اتضح أن تفاؤله المواكب لنقده كان في غير محله.

بفعل مفارقة تتأرجح بين ألاعيب التاريخ وتصحيحات النظري على محك الواقع، يجد الحاج نفسه في مواجهة مع "ثقافة الإبادة" التي وصفها بدقة سابقاً، والكامنة داخل مثال التعدد الثقافي. فقبل ثلاثة أسابيع، أعلن معهد ماكس بلانك للعلوم الاجتماعية إنهاء تعاقده مع الحاج، بعد أقل من عام من عمله كمحاضر زائر هناك. قرار المعهد الألماني ذائع الصيت جاء على خلفية تعليقات الحاج الناقدة لإسرائيل ولحربها الإبادية في غزة، والتي اجتذبت تعلقيات تحريضية من الصحافة اليمينية ومؤسسات يهودية في ألمانيا.

استدعت قضية الحاج قلقاً متزايداً حول مستقبل الحريات الأكاديمية في الغرب، وبالتالي حملة تضامن واسعة حول العالم، شملت بيانات من الجمعية الألمانية للأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، والجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط، والرابطة الأوروبية لعلماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والجمعية الأنثروبولوجية الأميركية ذات الستة آلاف عضو، ورابطة الأنثروبولوجيا الأسترالية، وأخيراً وقبل أيام قليلة بيان موقع من أكثر من 50 من أساتذة الجامعة الإسرائيليين يرفضون اتهام الحاج بمعاداة السامية ويدعون المعهد الألماني لمراجعة قراره.

كُتب الحاج التي تشمل دراسات عن الشتات اللبناني في المهجر، تصدر حصراً باللغتين الإنكليزية والفرنسية، لكن، وفي واحد من إصدارته الشحيحة بالعربية، وهي ورقة بعنوان "العلوم الاجتماعية العربية بين تقليدين نقديين"، يفرّق بين النزعة النقدية وأدواتها المنهجية التي تسم العلوم الاجتماعية، وبين الميل الجذري المميز لـ"السياسة السياسوية"، أي سياسة السياسيين المحترفين. في عمله البحثي، حافظ الحاج على خط الترسيم هذا، ممارساً سياسة أكاديمية، لا تتعارض مع السياسة السياسوية بالضرورة ولا تخاصمها، لكنها ترفض الخضوع لها ولا تسمح بالتماهي معها. في المقابل، فإن حملات التفتيش التي تشنها المؤسسات الأكاديمية والثقافية الألمانية ضد الخارجين عن الخط السياسي الرسمي في ما يخص الحرب في غزة، تقدم مثالاً مكتملاً لتغول "السياسة السياسوية" على الأكاديميا ومحاصرة ميلها النقدي.

في تغريدات سابقة في موقع إكس، ورداً على بيان الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس المعنون "مبادئ التضامن" وتضامنه المطلق مع إسرائيل بعد هجمات السابع من أكتوبر، أعلن الحاج عزمه تقديم ورقة بحثية عن "الاقتصاد السياسي للكرامة"، وفي هذا السياق يقول: "يمكن لهابرماس الاحتفاظ بحكمته لنفسه... أستطيع العيش من دونها". هكذا، أشار الحاج إلى استغنائه عن تنظيرات الفيلسوف الألماني، رغم أهميتها التي يقر بها. كما يعترف بأن موقفه هذا "غير مهني وغير أكاديمي"، وهو ضمناً يتخلى فيه عن رصانة تفريقه السابق، بين النقدي والجذري وبين السياسي والسياسوي. ولاحقاً، يختتم الحاج مرافعته الموجزة بالقول: "غزة غيّرتني، لكنّي أشعر أنّ هذا الجانب غير الأكاديمي منّي قد قدّم لكرامتي الكثير من الخير".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها