السبت 2024/03/16

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

"بيك نيك ع خطوط التماس"... الذكرى باعتبارها تاريخاً

السبت 2024/03/16
increase حجم الخط decrease
يستمر مسرح مونو(الأشرفية - بيروت) في تكريم المسرحي الراحل ريمون جبارة عبر استعادة أربع اعمال مسرحية له. مسرحية "بيك نيك ع خطوط التماس" هي الثانية التي تستعاد بتوقيع الممثلة والمخرجة جوليا قصار.

استعادة ريمون جبارة، وإعادة اكتشاف مسرحه الغاضب الممزوج بالتيارات المسرحية من دون حواجز أو حدود، تسعى لأن تكون في خدمة خطاب ورؤية جبارة، الذي قدم للمسرح اللبناني علامات مضيئة على مدى أكثر من أربعين عاماً. المسرحية التي عرضت العام 1999، أرادها جبارة أن تكون إدانة لكافة أنواع الحروب العبثية التي مررنا بها، فاستوحى من الاسباني فرناندو أرابال مسرحية "نزهة في ميدان معركة" التي كُتبت في 1952، أي العام نفسه الذي كتب فيه صاموئيل بيكيت "في انتظار غودو".

وتعتبر مسرحية أرابال، ذات الفصل الواحد، من أشهر مسرحياته، تنديداً بالحرب وأهوالها ومن أفضل نصوص أدب التحريض. وهي تنتمي إلى ما يعرف بـ"مسرح الصدمة" الذي أضاف اتجاهاً في مسرح اللامعقول، حيث ترتبط الدراما بهدف أخلاقي وإنساني. إنها ترى الحياة ممتزجة جوهرياً في الذكرى المغمورة. ومن هنا ينظر إلى الذكرى باعتبارها تاريخاً، وهذا ما تؤكده هذه المسرحية، فالمشهد الأخوي السعيد عند نهاية المسرحية يمزق الأحداث بشكل صاعق، ويتحوّل إلى مشهد قتل جماعي لضحايا أبرياء.



يستعير ريمون جبارة خط أرابال الصادم، عبر معالجته لذاكرة الحروب التي يعيش عليها الأبناء في شكل نوستالجي لا واعٍ. فما زال الأب المسالم يرغب في تصويره مع نياشينه على أنها من خيالة الجيش الفرنسي، فيدفع ابنه العاطل عن العمل إلى حمل البندقية والمجيء مع زوجته إلى خطوط التماس في زيارة نزهة كاريكاتورية. يكتشف الأب أن الحرب لم تعد كما في ذاكرة طفولته المفتعلة والمضخمة، وأن الحرب في لبنان هي حرب يقودها المدعو "طنبوز" من الجهتين المتحاربتين. وحتى يوغل جبارة في الواقع العبثي، يقع شاب أسير بالصدفة بين يدي العائلة، وسرعان ما يصبح ابنهم "رفيق" المقاتل، لشدة الشبه في العيون والمصير بينهما. قصيدة بصرية يكتبها ريمون جبارة، يقطعها بين الفينة والأخرى بصرخات غضب وقهقهات ساخرة من واقع البلد واحواله.

تماس اليوم
أخرجت جوليا قصار العمل الاستعادي بعدما قامت بتمثيل دور الأم في نسخته الأصلية. الشبان المقاتلون يجلسون الجمهور في مقاعدهم، وأكياس الرمل المكدّسة على الخشبة تشير إلى موقع عسكري خلال الحرب الأهلية اللبنانية. حافظت جوليا قصار على المكان والخط الاخراجي وخطاب المسرحية وتيمته، مع حضورها الواضح في طريقة إدارة الممثل، حيث الأدوار المتناغمة الواعية لكل جملة من حوار العرض. الشاب المسلح (جوليان بو شعيا) الذي يفتتح العمل في مشهد بين أكياس الرمل وأغراضه المبعثرة على وقع أصوات الرصاص والانفجارات حوله. يستقبل تلك الأصوات بعينين حائرتين توحيان بأنه ليس مقاتلاً محترفاً، وأنه ضحية تحمل سلاحها وتقف في موقعها وحيدة أمام الجهة المقابلة.

المقاتل سيُفاجأ بوالديه اللذين تركا القرية ليقضيا وقتاً ونزهة غداء مع ابنهما المحارب، مصطحبين معهما الطعام والشراشف. الأب، وهو موظف في البلدية ويزعم أنه خيّال سابق في الجيش الفرنسي، لعب دوره جوزيف أصاف بانضباط حركي وكوميدي متقن، وهو المتمرس في المسرح اليومي الجماهيري مع أعمال الرحابنة وجورج خباز. والأم (مايا يمين) كشفت عن ممثلة مسرحية ممسكة بإيقاعها وشخصيتها طوال العرض بحضور آسر ومقنع وحقيقي في مونولوغاتها الطويلة وخطاباتها الطويلة المباشرة التي يحبها ريمون جبارة في أعماله. بالإضافة إلى الدخول المحبّب للشاب الأسير، جلال الشعار، الذي شكل، مع بوشعيا، صورة الشباب المقاتل الضائع بلا جدوى وسط المعارك وخطر الموت دفاعاً عن القائد الطنبوز وانتهازيته وفساده.

بعد عرض مسرحية "تحت رعاية زكور" و"بيك نيك ع خطوط التماس"، تتشكّل الصورة المرتبطة بذاكرة المسرح اللبناني لريمون جبارة الذي كان، قبل الحرب وبعدها، من أشد الساخرين والرافضين لكافة السلطات التي حكمت وتحكم هذه البلاد، من سلطات دينية وعسكرية وسياسية وثقافية واجتماعية، وما بينها من حكايات دينية وأساطير أشعلت الحروب والانقسامات الأهلية بلا جدوى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها