كان خليل الوزير "ابو جهاد" أبعد القادة الفلسطينيين عن الأضواء، رغم أنه أقربهم إلى الفعل. وهو يعد من بين الشخصيات التي كانت متقشفة جداً في التصريحات والأحاديث مع وسائل الإعلام. وحينما كان يصدر عنه تصريح أو يدلي بمقابلة، فإنما ليضيء على مسألة محددة، لا يعرف عنها غيره القدر الذي لديه من المعلومات. وغالباً ما تكون قضية عسكرية، لأن ذلك ميدان عمله الذي اختاره بنفسه منذ البدايات الأولى للعمليات العسكرية ضد اسرائيل عن طريق قطاع غزة، قبل سنوات من تأسيس حركة فتح العام 1965، والتي بدأت كفكرة بينه وبين المهندس، الذي كان يعمل في الكويت حينذاك محمد عبد الرؤوف القدوة، والذي سيختار لاحقاً إسماً حركيا، يعرفه العالم به، هو ياسر عرفات.
ابتعاد "ابو جهاد" عن الإعلام، لم يقلّل من دوره وحضوره وأهميته. كان موجوداً في الميدان على الدوام، بوصفه أحد الأرقام الصعبة في حركة فتح، التي قامت على ظهر مجموعة محدودة من المؤسسين، تفرغت فئة محددة منهم كلياً لبناء التنظيم. ومن الأوائل الراسخين في الحركة، عرفات، أبو جهاد، صلاح خلف "ابو اياد"، فاروق القدومي "أبو اللطف"، كمال عدوان، محمد يوسف النجار، خالد الحسن، أبو علي أياد. ومن أجل المزيد من الاضاءة على هذه السيرة، يأتي كتاب زوجة "ابو جهاد" ورفيقة دربه، انتصار الوزير، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" تحت عنوان "رفقة عمر. مذكرات انتصار الوزير، أم جهاد".
تتذكر أم جهاد حياتها مع خليل الوزير، من دون الفصل بين الشخصي والعام، بل يظهر الجانب الأول، مندمجاً كلياً بالثاني، ولا ينفصل عنه في أي محطة. وتتداعى الذكريات التي تدور حول الزوج والفدائي والقائد، وكأنها تستعيد شريطاً مسجلاً، يبدأ منذ أن رأت خليل في ملاعب الطفولة، والذي نكتشف في الكتاب أنه ابن عمها. ومن هنا تبدأ لحظة التشابك بين ما هو إنساني ونضالي، وشخصي وعام. ويسجل الكتاب تفاصيل مراحل التحول الشخصي والوطني في هذه العلاقة، التي بدأت بالجاذبية بين الشخصين، وتطورت إلى هم نضالي كفاحي ضد الاحتلال في غزة، ومن ثم إلى مشروع أكبر تمثل بولادة الكفاح المسلح بتأسيس حركة فتح، والذي سار مع مشروع الزواج خطوة بخطوة.
تسجل أم جهاد وقائع "رفقة العمر"، لكنها تؤرخ لمسيرة أبو جهاد وحركة فتح والثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، ولذلك لا يتوقف كتابها عند اغتيال "ابو جهاد" في تونس في 16 نيسان 1988، بل يتواصل إلى اتفاق أوسلو والعودة إلى الوطن. وينتقل معها القارئ من محطة إلى أخرى، وهي تروي تفاصيل لم يسبق لأحد من القيادات في حركة فتح أن رتبها ضمن سياقها التاريخي، ودور أبو جهاد في كل مرحلة ومنعطف، والبداية من محطة تأسيس أول مكتب لحركة فتح في الجزائر في العام 1963 باتفاق بين الدكتور جمال عرفات، شقيق أبو عمار الأكبر، والقيادي في حزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية محمد خيضر، وذلك خلال عهد الرئيس الجزائري أحمد بن بله، والزيارة الأولى لأبو جهاد إلى الصين العام 1964، والاجتماع مع رئيس الوزراء حينذاك شوان لاي. والمحطة الثانية المهمة هي سوريا، التي مرت بمرحلة صعبة في البداية، بسبب مقتل يوسف عرابي واعتقال ابو عمار وأبو جهاد، ومن ثم تطور العلاقات، لكنها تبقى في صعود وهبوط قبل وصول الرئيس حافظ الأسد للسلطة وبعده. والأمر ذاته في ما يخص العلاقة مع الأردن والملك حسين، ومصر عبد الناصر، ولبنان والحرب الأهلية والاجتياح والخروج من لبنان العام 1982.
يسجل الكتاب بسرعة شديدة، الوقائع السياسية والعسكرية، من دون أن يتعمّق فيها، فيما يقف عند قصص كثيرة تبدو صغيرة وهامشية، لكنها مهمة جداً. فنعرف أن أبو جهاد بدأ في العام 1956 دراسته الجامعية في الاسكندرية، حيث التحق بكلية الصحافة والإعلام. وأن ياسر عرفات الذي بدأ أول تحرك لتأسيس حركة فتح من أجل إعلان الكفاح المسلح، كان مهندساً ناجحاً في أوائل الستينيات بالكويت، وصاحب أكبر شركة مقاولات، أسسها بشراكة مع أحد الأمراء الكويتيين، وكانت من أنجح الشركات حينها، إذ رست عليها عطاءات عديدة ومهمة ساهمت في تطوير البنية التحتية للكويت، ومنها طريق الكويت-الاحمدي، وأنه امتلك أربع سيارات فخمة. وهناك قصة أخرى ذات أهمية، وهي تخص هاني فاخوري، الذي كان من أوائل اللبنانيين المنضمين إلى حركة فتح، وعمل مع توفيق حوري على إصدار مجلة "فلسطيننا" الشهرية، وهي أول مطبوعة تتحدث عن القضية، وتدعو إلى تنظيم الفلسطينيين. وكان لدى الأخير ترخيص مجلة اسمها "نداء الحياة"، واستطاع إقناع أبو جهاد بأن تستفيد فتح من الرخصة، وأن يتولى إصدارها تحت شرافه وإضافة كلمة فلسطيننا، ليصبح اسم المجلة "فلسطيننا نداء الحياة".
يقف قارئ الكتاب عند مسائل مهمة. الأولى، هي الجانب العملي في شخصية أبو جهاد، وهو الذي لعب الدور الأساس في عملية التأسيس، بما تتطلبه من موهبة في البناء، من خلال تركيب المعادلات مع بعضها البعض. وهذا السلوك بقي يرافق القائد الفلسطيني، الذي كانت تقع عليه دائماً مهمة البناء، وإعادة البناء، في كل محطة جيدة، ويبرز دوره في تأسيس معسكرات التدريب في الجزائر، سوريا، الأردن، ولبنان. وهذا ما مكّن الثورة الفلسطينية من بناء جسمها العسكري في البدايات، وأهّلها لتطرح نفسها كقوة سياسية، تعمل من أجل التحرير، وانتزاع تمثيل الشعب الفلسطيني. وفي الوقت ذاته، كان يعمل على بناء العمل الفدائي داخل فلسطين، ودعم صمود الشعب الفلسطيني للبقاء في أرضه، ومواجهة مشاريع الاحتلال، ومن ذلك بناء لجان العمل الشبابي التطوعي، وتفجير الانتفاضة الأولى العام 1987.
والمسألة الثانية المهمة في الكتاب، هي العلاقة الخاصة بين أبو جهاد وعرفات التي بدأت منذ نهاية الخمسينيات، ولم تهتز طيلة مراحل الكفاح. ولولا وجود أبو جهاد كسندٍ عسكري ميداني وعميق داخل الأرض المحتلة، لما امتلك عرفات القدرة على الحركة السياسية والمناورة. وفي كل معركة سياسية، وعند كل منعطف، كان أبو جهاد موجوداً لرص الصفوف من حول عرفات، وتأمين تغطية عسكرية لكل تحرك سياسي.
الرصيد العالي، النضالي والأخلاقي والتقدير، الذي امتلكه أبو جهاد، لم يكن حكراً على فئة من حركة فتح، بل شمل كامل جسم الحركة، وتجاوزها إلى بقية فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وحركات التحرر العالمية، وحتى البلدان العربية التي كانت تختلف مع عرفات. وكان يجري النظر إليه باحترام شديد، كقائد ميداني محترف، وسياسي وطني، وإنسان متواضع ونزيه، وهذه إحدى الثغرات التي دخلت منها إسرائيل لاغتياله، فحين نفّذت عمليتها في تونس، لم يكن لديه من الحراسة أكثر من ثلاثة أشخاص.
مذكرات أم جهاد، مكتوبة بأسلوب جذاب، يمزج بين الذاتي والعام، يشد القارئ إلى محتواه الحافل بالأحداث التي مرت في الساحة الفلسطينية خلال أكثر من نصف قرن، وكان أبو جهاد حاضراً بقوة في القسم الأكبر منها. ويشكل الكتاب جهداً يستحق التثمين، ذلك أن ما قامت به السيدة انتصار الوزير، لم يحفظ فقط ذكرى أبو جهاد وذاكرته، أو يسجل رفقة عمرها معه، بل غطى مرحلة مهمة من تاريخ الكفاح الفلسطيني الذي ما زال القسط الأكبر من ذاكرته غير مدوّن.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها