هذه في الحقيقة أسئلة جوهرية اليوم. أسئلة وجودية تخص البشر كلهم.
ولوحظ في العقود الأخيرة أن اللادينية، واللايقينة، واعتناق العلمانية كأسلوب تعامل مع الحياة اليومية، أصبحت ظاهرة شائعة بين الدول. ويزداد معتنقوها يوما بعد آخر، لا في أميركا فقط، بل في العالم كله. يقوم فيليب زوكرمان، مؤلف كتاب "أن تعيش حياة علمانية"(دار سطور)، وعبر الرصد والمقابلات ووجهات النظر والحوارات، بالخوض في تجربة أشخاص دخلوا في هذا الحقل، حقل الإلحاد، واللادينية، والعلمانية، ليقدم للقارئ تلك النماذج، وكيف يعيشون في كنف المجتمع بتعدد معتقداته.
ملحدون، لا دينيون، علمانيون، يعيشون حياة طبيعية ممتعة، بل وربما سعيدة من دون إله، أو هدف يحكم حياتهم بعد الموت كما تنص عليه الأديان.
والكتاب ليس دعوة للإلحاد إنما تتبع لتغيرات مجتمع وظواهره المستجدة في قضية علاقة الفرد بالإله، فيما يشمل الأديان التوحيدية بالذات. وجود إله من عدمه مسألة قديمة جدا، رافقت البشرية منذ فجرها الأول، وشغلت أذهان المفكرين والفلاسفة، خاصة اليونانيين أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو على سبيل المثال، وحتى اليوم. وتظل الإجابات متواصلة وقائمة في تناقضها وحججها. تزداد وتتشعب كلما تطور العلم ليكتسح الأرض والفضاء، وكلما واجهت البشرية معضلات وجودية مستجدة. هذا ما يجيب عليه هذا الكتاب، عبر تجارب ملموسة، وحجج منطقية، ومقارنات. فيورد المؤلف نسباً استقصائية عن قضية الدول الفقيرة والغنية، المذابح المرتكبة بسبب المذاهب والأديان، وتنظيم المجتمعات وسعادتها، ونسبة الناس الذين لم يعودوا يرتادون الكنائس، ومنها الدول الاسكندنافية، هي المشهورة بضآلة الجرائم وندرة الفقر، ومتانة قوانين حقوق الانسان، والحياة المدنية. وكيف تحول أشخاص كانوا مؤمنين بالدين إلى علمانيين وملحدين لم يعد يهمهم وجود الرب من عدمه. تجارب متنوعة لأشخاص كانوا متدينين، ثم نتيجة مرورهم بأحداث مميتة، أو قاسية، خرجوا منها وهم لا يؤمنون بوجود ذلك الإله المتعالي الذي لا يمكن رؤيته أو إثبات وجوده. وهم، حسب ما جاء في البحث، يتمسكون بهذا الخيار كونه خيارا نابعا من التجربة، وليس من الفكر، أو الرؤية الفلسفية.
ويجري الباحث فيليب زوكرمان مقارنة بين الدول العلمانية والدول الدينية.
على سبيل المثال، تجربة بوروندي الأفريقية التي قتل فيها أيام الحرب الأهلية بحدود المليون شخص، فقط لأن بعض الشعب لا ينتمي إلى قبيلة شعب آخر. وهما شعبان متدينان رسميا. وثمة مقابل ذلك، نجاح اليابان، والدول الاسكندنافية، وبلدان أخرى في إدارة نفسها بفصل الدين عن الدولة، بينما نجد دولاً تتبنى الدين في إدارة الدولة والمجتمع إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في إسعاد شعوبها. طبعاً يمكن سحب الخريطة نحو الصراع المرير بين ايرلندا الكاثوليكية وايرلندا البروتستانتية. أفغانستان الليبرالية وأفغانستان الأصولية الطالبانية. هند المسلمين وهند الهندوس. تنظيمات القاعدة وداعش وعموم الشعوب الإسلامية، وهلم جرا في خريطة القتل حسب الدين، والمذهب، والقومية.
كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة الجهنمية، الشيطانية، الظلامية، إذن؟
هناك نشاطات تبعد المرء عن الدين، وهذا أمر صحي يقول المؤلف، فكلما زادت النشاطات الاجتماعية والفنية والثقافية، زادت فسحة الابتعاد عن الطقوس الدينية القاتلة، المتزمتة، الوالغة في حمأة التطرف. خذ المباريات الرياضية، الحفلات الموسيقية، المعارض الفنية، تجمعات الاحتفالات المدنية غير المرتبطة بمناسبات دينية، كلها تقضي على ظاهرة تجمّع البشر لسماع وعظ ديني مكرور، وفارغ، في كنيس، أو كنيسة، أو جامع، أو معبد بوذي. وعظ يفرّق بين الشعوب، ويدعو للنبذ والعزلة، والكره لغير المؤمنين به. كما قاد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى كشف عورات النصوص الدينية وأساطيرها، وفضح ممارسات رجال الدين وقادة الكنيسة، وقادة الأديان عموماً. فضح رجال الدين وخطل النصوص عبر أدوات التواصل الاجتماعي بشكل موثّق، نصوصا وصورا، أدى لاحقا إلى التخلي عن اتّباع الدين، وكسر هيبة رجاله، مما أسهم في توجه أعداد كبيرة إلى التخلي عن الأديان، أو الإيمان بوجود إله. وقد استخدم الباحث منطقا واضحا عقلانيا في التعامل مع فكرة الإله. منطق أولئك الأشخاص الذين اختارهم، وهم يتساءلون عن مبرر وحكمة موت الأطفال، وحدوث الكوارث الطبيعية، واشتعال الحروب المدمرة التي لم يمنعها رب، أو آلهة، حسب منطق اللادينيين، أو حسب النصوص التي لم تعد لها علاقة بالواقع كونها قديمة، وكتبت في أزمان ماضية بعيدة.
اللا أدريون والعلمانيون والملحدون ودعاة فصل الدين عن الدولة، ودعاة مكافحة التلوث.
الحركات النسائية المطالبة بالمساواة، منظمات المجتمع المدني، حركات المثليين، منظمات حقوق الإنسان وحرية الأديان، وغير ذلك الكثير من الحركات والمنظمات والتجمعات، يثبت البحث أنهم في تزايد، ونسبهم تتعالى في كل المجتمعات تقريبا، خاصة في العقود الأخيرة، بعد أن اكتشفت الشعوب أنها الصيغة المناسبة لإدارة مجتمع ناجح يعيش بسلام. هي عودة إلى المفهوم القديم القائل بفصل الدين عن الدولة، أو مقولة ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
في أميركا التي استند المؤلف إلى تجربتها في رصد ظاهرة العلمانية، كان للحزب الجمهوري تأثير بالغ في تنمية ظاهرة اللادينيين. وذلك بموقفهم المتعنت من الاجهاض، وعنصريتهم تجاه الأقليات، ووقوفهم ضد مصالح الفقراء والمسحوقين مع تمسكهم المهووس بالرؤية الإنجيلية والطقوس الكنسية. هم محافظون بامتياز. كذلك فضائح الكنيسة ورجالها في قضايا الاغتصاب وعدم محاسبة القساوسة الذين يخطئون، بل والتغطية على فضائحهم. فوق هذا وذاك، استغلال النص الديني في التغاضي عن المذابح التي حدثت منذ اكتشاف أميركا وحتى احتلال العراق.
ولا يخفى تأثير العلوم الحديثة في الابتعاد عن الدين، وما رافق ذلك من اكتشافات مذهلة في الكون، بعد أن خرجت البشرية من أسر المنظومة الشمسية لتنطلق نحو المجرة وهي تروم السفر خارج درب التبانة أيضا لترتاد فضاء المجرات والأساطير. وكل ذلك يدفع إلى القناعة في عدم وجود جواب يقيني حول بداية الكون، وسبب وجود البشر على الأرض. عدا عن تفاهة الوجود البشري في فضاء واسع يمتلك الأعاجيب التي لا تنسجم مع الخرافات الدينية، والنصوص المكتوبة منذ آلاف السنين.
وفي النهاية يكمن الأمر برمته بتحرير الدولة، مع قوانينها، من براثن الخرافة. تحرير الدولة ومؤسساتها، ثم تحرير الإنسان وفكره من هيمنة الشريعة. ومن هيمنة الدين بصورة عامة. وهذا ما تسير نحوه البشرية كما تثبت دلائل البحث.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها