الأحد 2024/02/11

آخر تحديث: 08:48 (بيروت)

عن الهولوكست وخرافة الشعب المختار

الأحد 2024/02/11
عن الهولوكست وخرافة الشعب المختار
"لائحة شيندلر"
increase حجم الخط decrease
إبّان العام ١٩٩٣، أطلق المخرج الأميركيّ اليهوديّ ستيفن سبيلبيرغ شريطه السينمائيّ "لائحة شيندلر" (Shindler’s List)، الذي يتناول المذبحة النازيّة ضدّ اليهود. الشريط الذي حصد سبع جوائز أوسكار ينطوي على بضع مسائل أقلّ ما يقال فيها إنّها تدعو إلى الاستغراب وتبدو كأنّها أسئلة معلّقة. ترد، مثلاً، في الشريط، كخلفيّة لأحد المشاهد، أغنية "يروشلايم شل دهف"، التي احتفت تاريخيّاً بهزيمة الجيوش العربيّة العام 1967. من الواضح، إذاً، أنّ بعض الوعي اليهوديّ آنذاك كان يربط بين المذبحة والتورّم السيكولوجيّ الذي بلغه الوعي الإسرائيليّ بعد الانتصار على الجيوش العربيّة إبّان "النكسة". العقل اليهوديّ الذي كرّس هذا الربط، والذي عبّر عنه سبيلبيرغ (مرغماّ؟) في شريطه السينمائيّ، يحيل على معادلة بسيطة: دولة إسرائيل هي ضمانة عدم تكرّر المذبحة من جديد. هذه المعادلة أفصح عنها عدد من ساسة إسرائيل ذوي التوجّه اليمينيّ إبّان السنوات المنصرمة. لكنّ ما حصل يوم السابع من أكتوبر تولّى تفكيكها موقظاً الشياطين الراقدة في قعر الذات الإسرائيليّة من سباتها، إذ أظهر أنّ الدولة اليهوديّة على أرض فلسطين التاريخيّة لا تضمن شيئاً. وليس من قبيل المصادفة أنّ لسان الحال الإسرائيليّ أقام ربطاً بين ما حصل على يد النازيّين ومجاهدي حركة "حماس" على الرغم من اختلاف الأزمنة والظروف والسياقات. بمعنًى ما، أسقط مجاهدو "حماس" السرديّة التي روّج لها سبيلبيرغ في شريطه السينمائيّ الذائع الصيت عبر استخدامه الأغنية المشار إليها من خارج أيّ سياق موضوعيّ.

لكنّ دولة إسرائيل لا تعيش من هذه السرديّة فحسب، بل من تركيبة عقليّة وسيكولوجيّة أخرى يمكن تسميتها "خرافة الشعب المختار". هذه الخرافة تتغذّى طبعاً من نصوص توراتيّة. غير أنّها تتغذّى أيضاً ممّا حصل في الهولوكست النازيّ. هناك، تحوّل الشعب اليهوديّ إلى ما يشبه الضحيّة الكبرى: شعب بأسره يقتاد إلى المذبحة وليس في مقدوره أن يصنع شيئاً كي يدافع عن نفسه. المحصّلة السيكولوجيّة التي يمكنها أن تنشأ من إحساسك بأنّك ضحيّة "لا مثيل لها"، إذا جاز التعبير، هو الشعور بأنّك استثناء أخلاقيّ.  بكلمات زياد الرحبانيّ البسيطة والعميقة في آن: "هيدا خيّو شهيد"، ولذا لا تنطبق عليه القوانين الوضعيّة التي تسري على سائر البشر. هذا الشعور طالعنا بكثافة في الخطاب الرسميّ الإسرائيليّ بعد السابع من أكتوبر، وفي سلوك بعض حلفاء إسرائيل من دول الغرب. فعند هؤلاء أنّ دولة إسرائيل تشكّل، بمعنى ما، استثناءً أخلاقيّاً ولا تخضع لمنظومة القانون الدوليّ التي غايتها حماية البشر، أفراداً وجماعات.

إنّ أوّل من فكّك خرافة الشعب المختار هم أنبياء التوراة. في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أنبياء إسرائيل الذين صارت أسفارهم جزءاً من الكتاب المقدّس لم يشكّلوا يوماً رأي الغالبيّة في ما يُعرف بالشعب العبريّ، بل كانوا القلّة التي تتحدّى الغالبيّة وتفكّك تصوّراتها. رأي الأقلّيّة، إذاً، هو الذي صار معياراً. أهمّ ما في هذا الرأي هو أنّ الاختيار لا يمكن اعتباره مسلّمةً بديهيّة، وهو لا يعزى إلى كون إسرائيل التوراة أفضل من الشعوب الأخرى، ولا يستتبع أنّه يتمتّع بامتيازات. إسرائيل، إذا أراد ألّا يتعطّل اختياره، مطالب بأن يذهب في استقامته الأخلاقيّة إلى النهاية، أي أن يقيم الحقّ والعدل وأن ينصف المسكين والضعيف والغريب. فإذا قام بهذا، صار منارةً للشعوب الأخرى، التي اختار الله، كما يؤكّد الانبياء، أن تكون له معها حكايات من نوع آخر لأنّ "للربّ الأرض وكلّ ما فيها، المسكونة وجميع ساكنيها". في عرف الأنبياء، إذاً، وبخلاف ما يروّج له اليوم منظّرو دولة إسرائيل، لا مكان لبدعة الاستثناء الأخلاقيّ، بل إنّ اختيار إسرائيل هو ما يحتّم عليه أن يكون بلا لوم في حفظ وصايا الربّ، وأوّلها أن "يحبّ الربّ من كلّ قلبه»، وأن «يحبّ قريبه كنفسه". وعند الأنبياء أنّ هذا القريب ليس مَن ينتسب إلى الشعب فقط، بل هو أيضاً الغريب، الذي يجب أن يحظى باهتمام خاصّ، لأنّ إسرائيل التوراة يُفترض به أن يعرف معنى الغربة، لكونه كان رقيقاً غريباً في أرض مصر. 

يبلغ تفكيك خرافة الاختيار ذروته في ما يعرف بأناشيد العبد المتألّم. وهي قصائد نعثر عليها في سفر أشعياء النبيّ، لكنّها تعود على الأرجح إلى شاعر مجهول لعلّه عايش سبي الشعب العبريّ إلى بابل حوالى العام 587 قبل الميلاد: "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي، وضعتُ روحي عليه فيُخرج الحقّ للأمم". يرتبط الاختيار في هذه الأناشيد بشخص العبد الذي يُخرج الحقّ إلى الأمم عبر ما يتعرّض له من ألم يتحمّله لاعنفيّاً: "كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازّيها فلم يفتح فاه". نظريّاً، طبعاً، يمكن ربط هذه الرؤية بالشعب العبريّ الذي سيق إلى السبي البابليّ. لكنّ قراءةً متمعّنةً لهذه القصائد توحي بأنّها لا تحيل على الشعب ككلّ، بل على شخصيّة تنجح عبر صمتها اللاعنفيّ في تحقيق ما فشل هذا الشعب في تحقيقه، أي إخراج الحقّ إلى الأمم. ينتقل الاختيار هنا، إذاً، من الشعب ككلّ إلى شخصيّة وظيفتها تحقيق مقاصد الله التي لم يتمكّن الشعب من تحقيقها. هل هذه الشخصيّة فرديّة أم جمعيّة؟ في سفر إشعياء، يبقى السؤال معلّقاً. لكنّ التأويل المسيحيّ لهذا السفر رأى في أناشيد العبد المتألّم استباقاً لحكاية موت يسوع الناصريّ على الصليب. المهمّ في الموضوع أنّ أناشيد العبد المتألّم تمنع الجماعة المسيحيّة بدورها من أن تستعيد خرافة الشعب المختار وتطبّقها على ذاتها - والحقّ أنّها سقطت غير مرّة في تجربة مريعة كهذه مدّعيةً لذاتها أنّها أصبحت شعباً مختاراً جديداً. فالاختيار في هذه الأناشيد هو اختيار يسوع دون سواه. والجماعة المسيحيّة مطالبة بأن تلتصق به، أي بمحبّته ولاعنفيّته، كي تصبح جزءاً من حكايته وحكاية الله معه. لا مجال، إذاً، لاستبدال خرافة الاختيار القديمة بخرافة أخرى أكثر حداثةً، لكن لا تقلّ عنها تعبيراً عن مركزيّة الأنا الجمعيّ.

أمّا إذا اعتبرنا أنّ أناشيد العبد المتألّم ينبغي عدم تأويلها "مسيحيّاً"، وهذا ما يقوم به اليهود بطبيعة الحال، فإنّ ما لا يمكن إنكاره هو أنّها لا تترك مجالاً لأيّ انفصال بين مفهوم الاختيار المرتبط باللاعنف ووظيفة إخراج الحقّ والعدل إلى الأمم. فألم العبد في هذه الأناشيد ليست مدعاةً لصيرورته "استثناءً" أخلاقيّاً، بل لانخراطه في تحقيق مقاصد الله التي تقوم على إعلان الحقّ، أي أحكام الربّ العادلة، للخوارج (غوييم). لا مكان، إذاً، في منظور أنبياء التوراة لفرضيّة الاستثناء الأخلاقيّ التي ترتكز عليها السرديّة الإسرائيليّة، عن وعي أو عين غير وعي، انطلاقاً ممّا تعرّض له اليهود إبّان الهولوكست النازيّ. إنّ قراءةً موضوعيّةً ومتوازنةً لكتب أنبياء التوراة كفيلة بأن تفضح شطط الدعاية الإسرائيليّة. والحقّ أنّه ليس من قبيل الصدفة أنّ ساسة إسرائيل، حين يقتبسون من كتابهم المقدّس، يقتبسون من الكتب التي تسرد حكاية الاستيلاء على أرض كنعان، ويتجاهلون كتب الأنبياء.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها