السبت 2024/02/10

آخر تحديث: 12:00 (بيروت)

لاهوت الإبادة: عماليق و"شعب جبارين" في غزة

السبت 2024/02/10
لاهوت الإبادة: عماليق و"شعب جبارين" في غزة
أوامر قتل جماعي لكل نفس حية و"حرق" و"اقتلاع" و"هدم" كل شجرة وبيت وبهيمة
increase حجم الخط decrease
"هَكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ. فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعاً، بَقَراً وَغَنَماً، جَمَلاً وَحِمَاراً" (صموئيل الأول ١٥: ٢-٣)

 

أكثر من مرة، استعار ياسر عرفات سردية النصوص المقدسة لتأصيل الوجود الفلسطيني، وهو يقول: "نحن شعب الجبارين"، وهو الشعب المذكور في القرآن. فهمت دائماً تلك الإشارة على إنها المقابل القرآني لشعب العماليق المذكور في العهد القديم، وهو السابق في وجوده في أرض كنعان على بني إسرائيل، وهو أيضاً في الأسفار العبرانية رمز وتجسيد للشر الواجب اقتلاعه وتحطيمه.

يستلهم عرفات النص المقدس اليهودي، في اعتراف ضمني بمرجعيته السياسية المعاصرة، وفي انقلاب على تلك المرجعية في آن، فشعب الجبارين/العمالقة هذا، وعلى الرغم من الأمر الإلهي المتعلّق بإبادته الشاملة، ما زال عصياً على الاقتلاع، ويتجدّد وجوده المرة بعد الأخرى. إن تلك المخاطرة الخطابية التي اقترفها عرفات، لا فرار منها بأي حال حتى من دون استخدام صفة "الجبارين"، فالقبول بأن يكون المرء فلسطينياً في الحاضر يعني بالضرورة القبول بأن يكون  رمزاً للآخر الشرير والمباد في عالم تتباهي ثقافته المهيمنة بنسبتها إلى الأصول اليونانية-اليهودية، وبأن أحد مرجعياتها الأساسية هو الكتاب المقدس. في لحظات الغضب، يقوم إله هذا الكتاب، أي الإله العبراني، بمعايرة بني إسرائيل بأنه أباد سبعة شعوب أمامهم حتى تخلو أرض الموعد لهم. هكذا تتأسس ميثولوجيا الشعب اليهودي، ومعها قسط وافر من اللاهوت المسيحي، على تطهير عرقي واسع، وعلى مبدأ الإبادة. تلك الإبادة التي ستقترفها الأمم المسيحية لاحقاً بحق الشعوب الأصلية وبالأخص في العالم "الجديد"، بل وضد اليهود أنفسهم لاحقاً في أوروبا.

تبقى ٱثار من اللعنة المقدسة في كل لسان أوروبي تقريباً، فكلمة فلسطيني بتجئتها الأقدم في تلك اللغات، وهي المختلفة عن هجاء كلمة فلسطيني بمعناها الحديث، تعني الفظ وعديم الثقافة وجلف الطبع. أما في العربية، فتستخدم كلمة فلسطيني في ترجمة العهد القديم لتشير إلى أحد شعوب أرض الموعد السابقين على بني إسرائيل، كما نستخدمها اليوم بالتهجئة نفسها للإشارة إلى فلسطينيي اليوم. اللاهوتيون والشرّاح العرب بذلوا جهداً كبيراً للتفريق بين الإثنين، أي بين "الفلستي" القديم و"الفلسطيني" اليوم، بل وأحياناً ذهبوا إلى انقطاع الصلة بينهما، وذلك بغية نزع الشرعية عن الرواية الصهيونية الدينية التي تدّعي أن الصراع الحالي هو امتداد للصراع الميثولوجي في النص المقدس بين بني إسرائيل والفلسطينيين، وبين داود وجليات الجبار.

تعدّ الآية المقتبسة أعلاه من العهد القديم، هدفاً متكرراً للنقد العالي للكتاب المقدس، مع غيرها من نصوص إبادية يزخر بها المتن الديني اليهودي، وبشكل أكثر تكراراً ووضوحاً في سفري التثنية ويشوع، حيث تتوالى الأوامر والنواهي الإلهية لبني إسرائيل. الأولى أوامر قاطعة بالقتل الجماعي لكل نفس حية و"الحرق" و"الاقتلاع" و"الهدم"، لكل شجرة وبيت وبهيمة وتحويل المدن إلى تلال من الخرائب لا تعمر إلى الأبد. أما في الجانب السلبي فتتعلّق نواهي يهوه لشعبه بألا يظهروا لا "رحمة" ولا "رأفة" ولا "شفقة" نحو هؤلاء الضحايا. والحال أن كتيب إرشادات الإبادة الوحشي المتضمّن في الكتاب المقدس صار ساحة للسجال الأركيولوجي. فحتى اليوم، لا توجد أدلة تاريخية تثبت وقوع الإبادات المذكورة في العهد القديم، وينسبها البعض من مؤرخي اللاهوت إلى فترة متأخرة، لتعويض مهانة السبي البابلي والشتات باختراع ذاكرة قسوة أسطورية ودموية.

لكن تاريخية إبادة العماليق من عدمها لا يجب أن تعنينا كثيراً اليوم، في الوقت الذي يقتبس نتنياهو نصها من العهد القديم في خطاب حرب متلفز، وفي الوقت الذي يصبح فيه هذا الاقتباس الإبادي المباشر دليل إدانة في دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. تبدو مجريات الحرب في غزة وكأنها استجابة للأمر الإلهي في سفر صموئيل الأول بإبادة العماليق، مدعوماً بالتحريض السياسي الصادر عن نتنياهو وغيره من أعضاء الحكومة الإسرائيلية، آلاف الأطفال القتلى عمداً، التخريب المقصود والمنهجي لكل مظاهر الحياة وإمكاناتها في القطاع وتحويل غزة إلى تلال من الركام، كل هذا يرسم صورة لعنفٍ توراتي حرفي.

إن المذبحة في غزة لا تشير إلى مجرد هوس ديني ينتمي إلى أقصى اليمين الإسرائيلي، كما يدعي البعض، بل إلى شفرة إبادية متضمّنة في النصوص المؤسِّسة والمرجعية للثقافة الغربية بمناهلها اليهودية-المسيحية، شفرة وجدتْ تفسيراتها العملية في جينوسايد بعد آخر في الماضي القريب، وتعود اليوم لتقرأ علناً، مثل تعويذة للقتل الجماعي في القطاع.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها