الأربعاء 2023/09/06

آخر تحديث: 13:51 (بيروت)

في الأجساد والأوشام

الأربعاء 2023/09/06
increase حجم الخط decrease
إن الوجه هو أقصى مسافة بيننا وبين الآخرين حتى لو كنا مغبة عناق والكثير الكثير من القُبل، هذا ما أقوله أنا، أما الفرنسي إيمانويل ليفيناس فيقول: إن الوجه هو الخطاب الأول.

بيد أن الخطاب في هذا السياق لا يعكس بديهية الجسد والوجه ضمناً. فالجسد هو بديهي إذا ما انطلقنا من المقولة التي تقول أن البداهة يكتنفها الكثير الكثير من الغموض. وفي كتاب "أنتروبولوجيا الجسد والحداثة" يخبرنا الأنتروبولوجي دافيد لا بروتون، بأن الجسد يبدو أمراً بديهياً، لكن البداهة هي غالباً ما تكون الطريق الأقصر إلى السر.

ثمة التباس كثيراً ما يناوش علاقتنا بالجسد فإذا بنا إزاء ما يشبه المسودّة غير المكتملة، وليس الوشم في هذا المحل إلا محاولة لإخفاء معالم هذا الإلتباس والإنتقال بالتالي بالبشرة من كونها مسودّة إلى كونها نصاً يقال. نعم، إن الوشم في بعض الميادين هو حكي البشرة لدى من لم تسعفه الحيلة لقول كل ما يريد.

من النافل أن الرؤى قد تباينت تاريخياً حيال النقش فوق الجسد وربما تكون قد ابتعدتْ عن الأسباب الأولى لاعتناقه في مدن القرن العشرين وحواضره. فهذا القرن قد أرسى تصورات عن الأوشام جوهرها يقوم على التمرّد، التفلّت، النبذ الإختياري، الإحتجاج وصولاً إلى تحدي السلطات القائمة، وضعية كانت، أو -وبشكل خاص - دينية، تجهد لرسم حدود الجسد في العالم والما وراء... وهو ما سوف يشكلّ وجهة هذه المادة.

قد يكون الوشم المحايث للجسد سيرة متخيلة، توليداً لهوية مغايرة، استئناف الولادة وحلم يقظة محفوراً بعمق في الجِلد.

ينبئنا أهل الأنتروبولوجيا وناسها أن الوشم في المجتمعات القديمة كان بمثابة طقس عبور، طقس انتساب، شدّ للأواصر التي تربط الفرد بالقبيلة بالأسلاف بالغابة بالأرواح بالسديم وبالكون. الوشم في هذه السياقات بمثابة الكلام المستحيل... إنه الرمز الذي يحفر في جسد الجماعة عميقاً. لكن ماذا لما تنقلب المعادلة ويصير الوشم علامة التفرّد، المغايرة، التحدّي وصولاً للخروج من عباءة المؤتلف اجتماعياً؟ نحن عندئذ إزاء نوع من الإفخارستيا المضادة – إذا ما أردنا التوغّل في ما يقوله ريجيس دوبريه في "طقوس النار"- فعبر الوشم لا يريد إنسان القرن العشرين وما تلاه الإتحاد مع جسد الربّ إنما استنبات سردية خاصة للجسد في علاقته مع العالم.

قد يكون الوشم الحديث ببعض توظيفاته رمزاً مشتركاً بين مجموعة من الأفراد، بيد أن سياسة التفرّد والنبذ المعكوس والإخلاص للذات تبقى كلها من العوامل الحاسمة في مقتضيات الوشم. في كتاب "الجنس والفزع" يقول الباحث الفرنسي باسكال كينيار، إننا نخترع آباء لنا، أي حكايات لكي نعطي معنى لولادتنا التي لا يمكن لأي منا رؤيتها. قد يكون وشم القرن العشرين رغبة مُلحّة بولادة أخرى للذات متحققة عبر حرية التصرّف في الجسد، فنحن – كما يقول كينيار – جئنا إلى هذا العالم عبر مشهد لم نشارك في إخراجه، جئنا إلى هذا العالم عبر مشهد لا علاقة لنا به.

فالوشم هنا بمثابة المدوّنة corpus، التي تعمل لصالح الجسد. فإذا كان الكلام من جهة الدلالة هو انحياز للفكر فإن الوشم هو على الدوم محض انحياز للجسد.

من البلاهة بمكان الإدّعاء أننا نملك أجسادنا في هذا العالم الضيّق، فالأجساد هي ملك الحاجات التي تُفرض عليها باضطراد بالحد الأدنى، وهي بالحد الأقصى ملك الإجتهاد من أجل نيل الجنّة في جلّ الديانات... جسد الشهيد في هذا السياق الأخير هو الأكثر قتامة والأكثر مشاعية، والتكرار في هذا المطرح هو "سيّد" مشهد الجسد على الدوم.

ربما الأوشام التي تعيد صياغة البشرة كامتداد للذات في العالم، هي مجابهة أو صدّ لمشهد التكرار التجاري أو الإستشهادي للجسد، فالأمر سيّان. جوهر أوشام العصور الحديثة يقوم على، أقله، التأفف من تكرار مشهد الجسد الواحد والمتواري خلف الطقوس اليومية للصلاة إلى حدّ انمحاء الجسد، أو خلف تلك الماكينات الضخمة في هذا المصنع أو ذاك، فضلاً عن الجلوس لساعات خلف طاولة المراجعات الإدارية حيث الجسد البيروقراطي المتهالك فوق روتينه اليومي.

قد يكون الوشم حاجة، قد يكون رغبة وقد يكون مجرد حنين لحدث متوهَّم وقع في ماض لم نعايشه على الإطلاق. ربما هو في بعض اندفاعاته محاولة دفاع عن الذات أو محاولة تسوير للأنا ضد كل السلطات... فالدرس الفيلولوجي يخبرنا أن كلمة paradise مشتقة من الكلمة الفارسية pairi-doeza والتي تعني الحديقة المسوّرة ضد كل ما يعكّر صفو الأمان.


كان بول فاليري يقول إن البشرة هي العضو الأشد عمقاً في الجسد. بالتالي، أن الإستحواذ على البشرة عبر الوشم هو سعي من أجل الإرتباط الشخصي والحُر مع هذا العمق. فالوشم هنا هو بمثابة self-directedness أي أنه التحديد الذاتي للهوية، للإنتماء ولسبل الخلاص.

يخبرنا تاريخ السجون في أوروبا القرون الوسطى أن الدمغة أو الوشم كان يشي بضرورة تجنّب بل نبذ أصحاب أجساد العار هؤلاء، فنحن هنا إزاء قتلة، لصوص، ساحرات، شذّاذ آفاق أو هراطقة بحق الكنيسة أو السادة من أصحاب الملّاك والنبلاء. مع الوشم الحديث، نحن إزاء اللعبة نفسها مع قلب الوظيفة والأدوار، فالموشوم الآن وعبر السردية المتشعبة فوق جسده يقول بلغة الرموز أنا أنبذ كل المؤسسات، كل السلطات وكل التماهيات. إن السردية التي يؤسس لها الوشم لا تقوم على محض النصوص أو العلامات التي فوق الجسد إنما أيضاً تقوم على نظرة للذات حيال العالم والآخرين.

استطراداً، وفي ما يتجاوز الأوشام، إن الصياغات الدوغمائية للجسد والمفروضة عليه من الخارج قد تدفع بالجسد إلى التماهي مع شاعرية الفرار إذا أردنا أن نستعير الفيلسوف الفرنسي جيلبر دوران بصرف النظر عن اختلاف السياقات.

يا لضيق وصلابة الحتميات، ويا لذلك الأفق المغلق الذي يرسم حدود الجسد لدى تماهيه الإجباري مع جسد الجماعة الدينية أو السياسية أو الثقافية بشكل خاص، لا سيما عندما تتجلّى الثقافة عبر بلاهة هذا أو ذاك من الأوصياء من آن إلى آن.

في كتاب "صراع التأويلات" يقول بول ريكور: نحن نلج عالم الرمز (والوشم قد يكون رمزاً) عندما يكون موتنا وراءنا وطفولتنا أمامنا. والرمز في هذا التناول هو تكثيف آليات وجودنا الحميم في العالم... الرمز هنا هو الإنتقال بالجسد من كونه مادة خام إلى كونه لعبة فتية تتحدّى بخفة مهارة الموت... وموت الجسد ها هنا يعادل اندراج هذا الجسد في نص محدّد سواء أكان من وضع البشر أو من وضع الإله.

لا بأس بالجسد إذا ما كان أداة تهكّم، أداة استعراض أو أداة مرح في سعيه لفك شيفرات العلاقات مع الآخرين ومع العالم وبشكل أساسي مع الذات، والوشم في هذا الحيّز لطالما شكّل تاريخياً الوسيلة الأبرز لتملّك الذات.

قد لا يقتصر دور الوشم على لعب دور المحرّض على الواقع الحرِج للجماعات إذ أنه قد يكون تجسيداً عميقاً لرغبة الموشوم في التسكّع ليس بين الأمكنة فحسب، إنما أيضاً بين الحقب والأزمنة والتواريخ... تحت الأرض أو في أعالي السماء.

لعل الموشومة تسعى مثلاً لمجالسة إيزيس أو عشتار أو ليليت، قد تكون بالموشوم رغبة للسباحة مع إله البحر الإغريقي بوزيديون وأيضاً، لِما لا، ربما ثمة ما يغري المرء بأن يناقش الشيطان مآربه عبر جعله يغوص عميقاً داخل مساحات جِلده الخاص!!



... كان المؤلف الموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي، يقول: دعنا ننظر إلى الوراء ففي الأمر خطوة للأمام. لعل الأوشام رحلة الجسد ليس إلى الأمام فحسب، إنما أيضاً إلى الخلف وصولاً إلى الما وراء.

ليس للوشم -كرمز- حدود، وما الثقافات المحلية التي تدّعي الإعتناء بالجسد من هذا المنظور إلا فتات من مرّوا... لماذا لا تكون السماء امتداداً عضوياً للتراب!!

كان جان كوكتو يقول، نحن أكاذيب تقول الحقيقة... إن استئثار الوشم بالجسد قد يكون أيضاً كذبة لكنها كذبة تحفل بالكثير من الحقائق والعيون.

إن الوشم فوق أجساد العالم الحديث ينبئنا برغبة هذه الأجساد بالتملّص، بالفلتان، بالتسكّع بين حدود اللابدايات واللانهايات. فالجسد ليس أمراً مفروغاً منه كما يرى إلى الأمر سادة المؤسسات والثكنات العسكرية ورجال الدين وسادة الحروب والتشريع وأصحاب المواقيت المضبوطة والسساتيم اللامرئية. بل ترى أن الجسد أقرب إلى أن يكون نوستالجيا تائهة، فقداناً مؤقتاً للذاكرة وسعياً حثيثاً للإمتلاء بالماء والهواء والتراب والنار. وربما الوشم، كواقعة تشي بحرية امتلاك المرء لجسده، هو في هذا السياق استحضار لغياب مؤقت أو استذكار رمزي للخلاص.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها