لمناسبة مئوية سيد درويش، أجرت "المدن" حواراً مع الباحث والناقد الموسيقي، الدكتور فكتور سحّاب، عن كتابه "سيّد درويش المؤسِّس" الصادر حديثاً عن دار نلسن، بيروت، ودار ريشة، القاهرة...
* تقول إن الكتاب ثمرة خمسين عاماً من كتاباتك عن سيد درويش وكبار الموسيقيين العرب. وتجهد في إثبات الصفة العلمية لكلامك عن سيد درويش ونزع أسطورته وإبراز حقيقته، كما تذكُر في الكتاب، فإلى ماذا خلص بحثك العلمي؟
- في الواقع أن استماعي الحثيث لأغنيات الشيخ سيّد درويش، بدأ قبل تأليف الكتاب بمدة طويلة، فقد ولدت في بيت فيه فونوغراف ومجموعة أسطوانات للشيخ سيّد ولسلامة حجازي ومحمّد عبد الوهّاب وأم كلثوم وغيرهم، وهنا كانت بذور الأساس لثقافتي الموسيقيّة. لكن مع عملي في الصحف والإذاعة، أخذت أكتب المقالات في الموضوع. وأذكر أني في يوم الذكرى الخمسين على وفاة سيد درويش، أي في 15 أيلول/سبتمبر 1973، استضفتُ في برنامجي في "إذاعة لبنان" (وزارة الإعلام) كلاً من الموسيقيّين المعروفين توفيق الباشا وخالد أبي النصر وميشال خياط، في موضوع موسيقى سيّد درويش؛ ولست أملك للأسف تسجيلاً لهذا البرنامج. ثم بدأت أكتب محاضرات وأبحاثاً ومقالات في الموسيقى العربيّة المَدَنيّة (أي الحَضَريّة، غير الريفيّة أو البدويّة)، وكانت للشيخ سيّد حصة فيها، لا سيّما في ذكرى مرور مئة عام على مولده، فألقيت في نوادٍ ثقافيّة في بيروت وصيدا العام 1992، محاضرة عن فنه، دعّمتها بإسماع الحضور بعض أغنياته.
أما عن الصفة "العلميّة"، كما تقول، فأرجو أن أكون قد اكتسبتها في كتابتي، على الأخص في الثمانينيّات من القرن الماضي، عندما انصرفت إلى تأليف أطروحتي لنيل شهادة "ماجستير" في التاريخ، من الجامعة اللبنانية "السبعة الكبار في الموسيقى العربيّة المعاصرة" (دار العلم للملايين، ط 1 1987، ط 2 2001)، فكان عليّ أن أقرن أقوالي بإثباتات وقرائن ووثائق تطبعها بالثقة "العلميّة" قدر المستطاع. ومن ذلك أني طالعت في مكتبة الجامعة الأميركيّة في بيروت، أفلام "مايكروفيلم"، وأمكنني أن أقرأ ما في صحف مصر أيام سيّد درويش، بين العامين 1916 و1923. وهكذا استطعت أن استند إلى الإعلانات والمقالات فيها، لمعرفة "يوم" العرض الأول لكل المسرحيّات التي لحّن فيها وغنّى الشيخ سيّد. وفي هذا الشأن، لم يعد ثمة مجال واسع للمناقشة، لأن المعلومة صارت مُستندة "علميّاً" إلى وثيقة أصليّة. وهذا أسلوب من أساليب التزام أصول "العلم" في كتابة التاريخ.
* تفصّل تأثيرات سيد درويش من خلال عمره القصير ورحلاته خارج مصر. فأين تأثيرات موسيقى بلاد الشام فيه؟
- لقد تأثر الشيخ سيّد بأكثر من مصدر لتكوين وجدانه الموسيقي: تجويد القرآن، الموشحات والأدوار السابقة لعصره، الغناء الشعبي، الموسيقى الشاميّة (العام 1909 وبين العامين 1912 و1914)، ثم الأوبرا الإيطالية. في المصدر الشامي، قصد الشيخ سيّد، المشايخ والفنانين والحفظة في يافا وبيروت ودمشق وحلب، لا سيّما الشيخ عثمان الموصلي وغيره. وعلّمته رحلة الشام الأولى (العام 1909) الشيء الكثير. فقال لزكي طليمات، المسرحيّ الذي عمل معه ومع نجيب الريحاني في ما بعد: "حفظتُ التواشيح والضروب الموسيقيّة القديمة، ثم أناشيد الكنائس. وكان يسمّي الموسيقى الكنسيّة العربيّة في الشام "أوبرا إلهيّة". ولذلك فإن ميراث التواشيح والضروب الموسيقية القديمة في موسيقى سيّد درويش، استَمَدّت تأثرها على الخصوص من رحلتي الشام هاتين. وهذا يفسّر السمة العربية العامة في موسيقى سيّد درويش، إذ فاض أثره عن الحدود المصريّة إلى المدى العربي الواسع.
درامية لحن سيد درويش
* أحب التركيز على درامية لحن سيد درويش بشكل عام. ماذا أضاف المسرح إلى موسيقى سيد درويش؟
- بل ماذا أضافت موسيقى سيّد درويش إلى المسرح... المعلوم أن المسرح الغنائي في مصر لم ينشأ مع الشيخ سيّد، بل في القرن التاسع عشر مع أحمد أبي خليل القباني العام 1883 (والبعض يقول مع مارون النقاش، في ستينيات القرن التاسع عشر)، لا سيّما مع إنشاء دار الأوبرا المصريّة (1869)، وعروض الأوبرا الإيطاليّة التي توافدت على مصر. لكن الموسيقى والغناء المسرحيّين قبل الشيخ سيّد درويش، كانا ينطلقان من فلسفة جماليّة تختص بها الموسيقى العربية، هي فلسفة الطرب. كان بعض المغنّين يتّخذون اللحن من توشيح ديني، ويركّبون عليه كلاماً جديداً في المسرحيّة الغنائيّة. وبذلك، كان اللحن لا يعبّر عن الكلام، بل يؤخَذ لجماله المحرِّك للإحساس بالطرب، بغض النظر عن مضمون الكلام ومعانيه. الشيخ سيّد الذي تمسّك بفلسفة الطرب الجماليّة هذه، في ثلاثة من أهم أنواع أغنياته (الموشح والدور والطقطوقة)، طوّر هذا الأسلوب في أغنياته المسرحيّة، لأن الأغنية المسرحية في نظره كان يجب أن تعبِّر عن مشاعر معيّنة، أو حركة ما، أو شكل من الأشكال. ولذلك اعتمد أسلوب التعبير بالموسيقى عن مضمون الكلام المغنَّى. وقد أشرتُ في كتابي "سيّد درويش المؤسِّس" إلى بعض النماذج التي عبّر فيها عن مشاعر معيّنة (كالخوف في أغنية "الشيطان")، أو عن شكل معيّن (كطول محبوبته في دور "ياللي قوامك يعجبني")، أو عن حركة معينة (كدوران دواليب الحنطور في أغنية "العربجيّة"). ففتح بذلك صفحة تاريخيّة جديدة في الموسيقى العربية، لم يعد فيها الطرب وحده يستأثر بالقيمة الجماليّة، بل انضم إليه التعبير في إضفاء الجمال والقيمة على هذه الموسيقى.
وكان قد حدث ما يشبه هذا الانقلاب في الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة، حين تطوّرت تلك الموسيقى من مرحلتها "الكلاسيكيّة" إلى المرحلة "الرومانسيّة"، في حدود عشرينيّات وثلاثينيّات القرن التاسع عشر، في أواخر عصر بيتهوفن، وخصوصاً مع شوبرت. فوصل التعبير والتصوير والتمثيل في الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة إلى أن صوّر تشايكوفسكي تصويراً بديعاً انسحاب جيش نابليون بونابرت من روسيا مهزوماً، في افتتاحيته الرائعة "1812"، فيما صوّر لنا ريمسكي كورساكوف في "شهرزاد" حركة غرق السفينة، في صورة مؤثرة. والمقارنة هنا مع "انقلاب" سيّد درويش جائزة للتوضيح فقط، مع التحفظ على اختلاف الحالتين التاريخيّتين.
* الى أي مدى استخدم سيد درويش الهارموني الغربية؟ والى أي حد تأثر بالغناء الأوبرالي كما تذكر في الكتاب؟
- استخدم الشيخ سيّد البوليفونيا الغربيّة، أي تعدد الأصوات في الغناء، ففي ختام الفصل الأول من مسرحيّة "شَهْوَزاد" (بالواو، لا بالراء)، في لحن "دقّت طبول الحرب"، اختلطت أصوات الداعين لزَعْبُلَّة (بطل المسرحيّة) بأصوات الداعين عليه، في تأليف موسيقيّ يحتوي على أصول الكونترابنط (contrepoint) أي لحنَين أو أكثر، تؤدَّى معاً، وتشكّل تجانسات هرمونيّة صحيحة. وتلك كانت أول محاولة في هذا النوع من التأليف في الموسيقى العربيّة. واستخدم الشيخ سيّد التأليف البوليفوني (متعدّد الأصوات) مرتين في مسرحيّة "البَرُوكة": في الفصل الثاني، ضمن الحوار بين بيبو وبتينا والجمع، وفي الفصل الثالث، بعد لحن "الشيطان" العظيم. ويروي حسن القصبجي، صديق سيّد درويش، كيف طلب إليه الشيخ سيّد أن يغنّي اللحن الذي تغنيه المجموعة: دقّت طبول الحرب. فأخذ القصبجي يغني، وبدأ درويش يغني معه لحناً ثانياً، فتوقّف عن الغناء، فأشار إليه ألا يتوقّف وأن يكرّر غناء اللحن. وأخذ درويش يدندن معه بصوت خافت أولاً، ثم يرفع صوته شيئاً فشيئاً باللحن الثاني، حتى ظهر اللحنان معاً. وإذا علمنا أن الكونترابنط هو من أصعب الأساليب في التأليف الموسيقيّ (وقد تفوّق فيه باخ، في الموسيقى الأوروبيّة الكلاسيكيّة)، وأن الشيخ سيّد لم يدرس منه شيئاً في أي معهد، لتبيّنت لنا عبقريته وخياله التجديدي الجبّار.
وَصل بين قرنَين
* من الأخطاء الشائعة ان سيد درويش أسس للموسيقى العربية الحديثة، فيما تركز أنت في الكتاب على أنه صِلة وصل بين قرنَين. كيف أثبتّ ذلك؟
- في هذا الشأن ينبغي لنا أن نميّز بين جانبين أساسيّين في نتاج الشيخ سيّد: الغناء المسرحي، والغناء غير المسرحي. في الباب الأول، كان لا بد له من إحداث "الانقلاب" الذي أسلفنا الإشارة إليه، حين ابتكر أساليب التعبير، التي لم تكن معتمَدة في الموسيقى العربية قبله. أما الجانب الآخر من نتاج الشيخ سيّد درويش: الأدوار العشرة، والموشحات الستة عشر، والطقاطيق الست وستين، فقد سيطرت فيه فلسفة الطرب تماماً، مع تزويق تعبيري هنا وهناك. وإذا نظرنا في هذا الجزء من النتاج، فإن الشيخ سيّد استخدم فيه المقامات العربية التي ورثها من القرن التاسع عشر (مع إضافة الزنجران والكورد)، والإيقاعات التقليديّة، وحتى أشكال التلحين، التي لم يمسسها بأي تبديل أو تغيير. فالدور عنده بقي على شكل دور محمد عثمان، والموشح على الشكل الذي كان معتمداً في القرن التاسع عشر، والطقطوقة على الشكلين اللذين سبقه إليهما محمّد عبد الرحيم المسلوب وتلاميذه.
لذا، فإن الشيخ سيّد لم يُلغِ ميراث الموسيقى العربية الذي ورثه، بل أضاف إضافته التعبيريّة التاريخيّة التي اقتضاها الغناء المسرحي. وبذلك فهو أبو المرحلة التطويريّة في الموسيقى العربيّة، التي تتلمذ عليها كبار الموسيقيين العرب في القرن العشرين.
* في الكتاب اكتشافات لأعمال نادرة غير متداولة في كتب الموسيقى العربية، ومنها أن سيد درويش لحن في ثلاثين مسرحية، لا اثنتين وعشرين كما هو معروف. كيف حصلتَ على باقي الألحان؟
- الألحان التي خلّفها الشيخ سيّد، معروفة ومتداولة، وقد أشار إليها مؤرخون للموسيقى العربيّة، مثل محمد علي حمّاد في كتابه: "سيّد درويش حياة ونغم"، (الهيئة المصريّة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970)، والذي يتضمّن حصيلة جيّدة من الألحان المدوّنة (نوتة) ويُحصي معظم مسرحيّاته، وعدداً من الألحان التي احتوتها، من دون تاريخ. إضافة إلى والدكتور محمود أحمد الحفني في كتابه: "سيّد درويش، حياته وآثار عبقريته"، (الهيئة المصريّة العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971)، وهو كتاب قيّم جداً، احتوى على الخصوص في ختامه، على جدول للاسطوانات التي بقيت لنا بصوت سيّد درويش أو بألحانه. لكني أضفت من أبحاثي حصيلة الاطلاع على "مايكروفيلم" الصحف المصريّة، أو "موسوعة المسرح المصري الببليوغرافيّة، 1900-1930"، للدكتور رمسيس عوض، (الهيئة المصريّة العامة للكتاب، 1983)، ومصادر أخرى.
أما عن التسجيلات، فجمعُها عادةٌ نَشَأت مع والدَيّ، في بيتنا منذ مولدي، وثابرتُ عليها، حتى أني اشتريتُ من دمشق أغنية للشيخ سيّد هي "لحن المُحضَرين"؛ فجادلني حسن بن سيّد درويش، بأن هذه الأغنية لا وجود لها في أغنيات أبيه، فأعطيته تسجيلها. وقد ساعدتني تكنولوجيا الحواسيب الآن على التوسّع في الجمع، فباتت لدي مكتبة موسيقيّة يندر ألا تجد فيها عملاً موسيقياً عربيّاً ذا قيمة، من أهم ما جاد به تراث القرن العشرين، لا لسيد درويش وحده، بل لمن يخطر في بالك من الملحنين أو المغنين والمغنيات (مثلاً 84 قطعة من سلامة حجازي، أو 179 قطعة من صالح عبد الحي...).
أستاذ الأساتذة
* تتحدث عن تأثيرات سيد درويش في كبار الموسيقيين العرب، وفي مقدمتهم محمد عبد الوهاب. هل من أمثلة على ذلك؟ ومن هم الموسيقيون العرب الذين تأثروا به، غير محمد عبد الوهاب؟
- لقد افتتح سيّد درويش، بالتجديد الذي أحدثه، وأسلفنا الكلام فيه، عصراً جديداً من عصور الموسيقى والغناء العربيّين، اتّسم بما سمعناه من كبار تلاميذ الشيخ سيّد: محمّد عبد الوهّاب وزكريّا أحمد ورياض السنباطي وغيرهم. حتى أني نشرتُ في كتابي هذا، حديثاً لكبار الموسيقيّين اللبنانيّين، نشرَتْه إحدى المجلات، وقد أجمعوا كلهم على أمرين اثنين: أن منطلقهم كان من موسيقى الشيخ سيّد، وأن خليفته غير المُنازَع هو محمّد عبد الوهّاب. ومن هؤلاء الموسيقيين اللبنانيين نجد: زكي ناصيف وعاصي الرحباني (مسرحيات الرحابنة) وفيلمون وهبي وتوفيق الباشا (أسق العطاش) وحليم الرومي وعفيف رضوان وسليم الحلو، وآخرين.
أما عن تأثر محمّد عبد الوهّاب بسيّد درويش، فهو ماثل بوضوح، في التعبير والتصوير والتمثيل بالموسيقى في أغنيات وألحان عبد الوهّاب، لا سيّما في أغنياته السينمائيّة (قيس وليلى، من فيلم "يوم سعيد"، 1939؛ أو حكيم عيون، من فيلم "رصاصة في القلب"، 1944؛ أو عاشق الروح، من فيلم "غزل البنات"، 1949)، وفي أغنياته وألحانه القصصيّة غير السينمائيّة: مرّيت على بيت الحبايب 1932، أو: أيظن، لحنه لنجاة الصغيرة 1961، أو فاتت جنبنا، لحنه لعبد الحليم حافظ 1974.
لقد أدخل الشيخ سيّد في الأغنية العربيّة المسرحيّة فلسفة التعبير والتمثيل والتصوير بالموسيقى، فأكمل عبد الوهّاب تطوير هذه الفلسفة الجماليّة في الأغنية العربيّة السينمائيّة وغير السينمائيّة، وإن كنا نضيف، أن عبد الوهّاب هو الذي طوّر الشكل والمضمون في نوع القصيدة الغنائيّة العربية، وفي نوع الموّال، وهما نوعان لم يمسسهما سيّد درويش بأي تطوير.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها