الإثنين 2023/09/18

آخر تحديث: 12:33 (بيروت)

مدرسة القسوة في شرق المتوسط

الإثنين 2023/09/18
مدرسة القسوة في شرق المتوسط
عبد الرحمن منيف تحدث عن السجون التي بناها أصحاب شعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين، كي يحبسوا فيها رفاقهم
increase حجم الخط decrease
كرس الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، روايتين لمنطقة شرق المتوسط، الأولى حملت اسم هذه المنطقة الجغرافية، وصدرت العام 1975، وهي تدور حول المعارضة السياسية والسجن، والثانية حملت عنوان "الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى"، وهي التي كرسها كلياً للسجن الذي صار مرادفاً لتجربة المعارضة في بلدان عربية عديدة، وخصوصا سورياً، مصر، والعراق. وتحدّث الكاتب السعودي، الذي درس في مصر، وعمل في العراق، وعاش في سوريا، عن السجون التي بناها القوميون، أصحاب شعارات الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، كي يحبسوا فيها رفاقهم، حينما يختلفون معهم، والمعارضين، الذين يطالبون بالديموقراطية والحريات.

سجون غالباً ما كانت مقابر للأحياء، لا يخرج منها أحد حي إلا في ما ندر، ومثال ذلك الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، الذي اعتقل رفاقه في قيادة حزب البعث، في ما أطلق عليه الحركة التصحيحية العام 1970، ومارس عليهم نمطاً من السادية، التي تخصّص فيها الحكام المرضى بالسلطة. وكان نصيب الأقرب منه، القدر الأكبر من العذاب والتنكيل. ومن هؤلاء من سجنه مؤبداً، ولم يفرج عنه إلا قبل فترة قصيرة من موته، مثل صلاح جديد، ونور الدين الأتاسي.

السجن عند عبد الرحمن منيف ليس مرادفاً للموت في الأقبية المظلمة فحسب، بل صورة عن التوحش الذي يمارسه الحاكم ضد معارضيه، ويتحول إلى مدرسة للقسوة، والعنف المرَضي، تتدرب فيها أجهزة الأمن على ارتكاب الجريمة، من دون أي حساب للقانون والعقاب. وتكشف سلسلة الشهادات التي نشرها سجناء سابقون، خصوصاً في سجن تدمر الصحراوي، عن فظائع في التعذيب الجسدي والنفسي، وتنفيذ إعدامات من قبل فريق السجن المدرب بعناية على هذه الأعمال. ومثال ذلك شهادة السجين السابق محمد برو في كتابه "ناج من المقصلة"، التي سجل فيها وقائع شهدها خلال عشرة أعوام في سجن تدمر، حيث تم قتل وإعدام عدد كبير من المعتقلين السياسيين. ويروي الشاهد أن السجان الجيد بالنسبة للأجهزة الأمنية، هو الذي يقتل بلا سبب أو حساب، حتى يصير القتل مهنة.



القسوة مدرسة أسّس لها الحكم الناصري في مصر، والبعثي في سوريا والعراق. وتأثرت بها بلدان أخرى، منها ليبيا والسودان، على سبيل المثال، حيث استنسخ العسكر تجربة العنف من نظرائهم في مصر وسوريا، بل أضافوا لها، وطوروها بأدوات محلية وفق ما تجود به مخيلة وحسابات صاحب السلطة، الذي كان يختار بنفسه طريقة تعذيب معارضيه. وكانت الإعدامات والتصفيات الجسدية في عهدي جعفر النميري ومعمر القذافي على مدى عقود، صدى لما حصل، ويحصل في شرق المتوسط المنكوب بحكم العسكر ورجال الأمن.

وهذا لا يعني أن هذا السلوك الشاذ والمرَضي لم يكن موجوداً في بلدان عربية أخرى مثل تونس، التي عامل فيها الحبيب بورقيبه معارضيه بقسوة، إلا أنها لم تتحول إلى أسلوب حكم، وهناك فضيلة تسجل لبورقيبة وهي أنه أبعد الجيش عن الحياة السياسية. ومع أن زين العابدين بن علي، الذي انقلب على بورقيبة، هو ضابط من الجيش، إلا أنه لم يتمكن من إرساء حكم عسكري يتمتع بالديمومة، وسقط بن علي العام 2011، من دون أن يُسجل عليه ارتكاب مجزرة، مثلما حصل على أيدي العسكر في سوريا، ومصر، وليبيا، والسودان. ويبدو الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد، طالباً يتعلم من المدرستين الناصرية والبعثية، فنون التنكيل بالمعارضين، والتلذذ المرَضي بالتعذيب. ويعد المعتقل غازي الشواشي مثالاً على ذلك، إذ أمر سعيّد منع دخول الكتب ومروحة صغيرة إلى الزنزانة المنفردة التي يشغلها الشواشي، في حين تجاوزت درجة الحرارة الـ45 درجة مئوية، وأوعز بتركيب كاميرا تصوير داخلها، تعمل على مدار الوقت، تنقل تفاصيل حياة السجين، الذي تجرأ على مطالبة سعيّد بالرحيل "مع ضمان عدم التعرض له".

العنف خلف جدران السجون، وتحت الأرض في الأقبية المظلمة، انتقل إلى ما فوق الأرض، عند أول محاولة جماعية لمواجهة السجان الكبير في سوريا. حينذاك انفتحت أبواب الجحيم على المطالبين بالحرية، ولم يوفر النظام سلاحاً إلا واستخدمه، من الكيماوي حتى الطيران الحربي، بل اخترع أسلحة جديدة غاية في البدائية، وسجّلها باسمه كملكية فكرية، هي البراميل المتفجرة، التي رمى منها الآلاف من الجو على المدن والقرى، مما تسبب في قتل وتهجير مئات الآلاف.

القسوة تبدو تعبيراً غير دقيق في وصف الحالة السورية، مفردات الوحشية والجريمة لا تكفي لوصف تجاوز المقاييس المتعارف عليها، ولا يمكن مقارنته في عالم الأدب بأي عمل آخر، من تلك التي تحدثت عن الاستبداد والدكتاتورية، كما هو الحال إزاء رواية مصطفى خليفة "القوقعة"، التي صدرت في تسعينيات القرن الماضي، وأحدثت، في حينه، صدمة للقراء بسبب محتواها القاسي، خصوصاً بالنسبة للأجانب، الذين لم يعتادوا على هذه الجرعة العالية من العنف في الأدب الحديث، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شهادة الشاعر فرج بيرقدار عن سجن تدمر.

السبق الذي حققه هذان العملان قلل، لاحقاً، من درجة الاهتمام، بما صدر من أعمال روائية وشهادات عن السجن، ومن ناحية أخرى، صار هذا النمط من الكتابة، لا يثير رد فعل كما سبق، بعدما رفع النظام من منسوب الوحشية، لتبلغ حد الإبادة والتهجير الجماعي، لما يتجاوز عشرة ملايين إنسان، وتدمير مدن بأكملها، وإعادة الحياة في دمشق إلى عصر سابق للكهرباء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها