السبت 2023/09/16

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

كريم إدريس والبحث عن "أطفال الحوز"

السبت 2023/09/16
كريم إدريس والبحث عن "أطفال الحوز"
كريم ادريس
increase حجم الخط decrease
على منضدة بيضاء منخفضة جلست الباحثة الفرنسية، ليا مورين(*)، في مقدمة قاعة سينما "دوكهاوس" اللندنية، وأمامها توزعت الرسائل وأعداد المجلات الأرشيفية والصور، وفي الخلف كانت الشاشة البيضاء الواسعة تعرض صوراً ثابتة مكبرة لبعض من تلك الوثائق مع فواصل من حديثها وتعليقاتها وعرض مقاطع من أفلام سينمائية ووثائقية. بدأت مورين محاضرتها/عرضها الفني، في إطار سلسلة أرشيف سينما عدم الانحياز في مهرجان "أوبن سيتي" للأفلام الوثائقية، برسالة مؤرخة في 25 سبتمبر/أيلول 1967. يكتب الشاب المغربي كريم إدريس، إلى عميد كلية لودز البولندية للسينما، ويطلب قبوله في برنامجها الدراسي للإخراج، مدعماً طلبه بالإشارة إلى النضال في سبيل إقامة سينما مغربية ملتزمة بالمعنى اليساري.

تعدّ كلية لودز واحدة من أشهر مدارس السينما في العالم، إلا أن هذا لم يكن السبب الوحيد وراء سعي إدريس للالتحاق بها، ففي ظل الحرب الباردة، اجتذبت الكلية المئات من طلاب الكتلة الشرقية ودول الجنوب المستقلة حديثاً، وكان من بينهم عدد من المغاربة الذين أضحوا لاحقاً رواد فن السينما في بلدهم، وعلى رأسهم المخرج عبد القادر لقطع والأخوان عبد الكريم ومصطفى الدرقاوي.



قبِلت الكلية طلب إدريس، ومن ثم ألتحق برفاقه في لودز. تؤرخ مورين لتلك الفترة، مقدمة سيرة أوسع من السيرة الشخصية للمخرج المنسي ومن خلالها تستعرض طموحات يسار المغرب ما بعد الاستقلال على خلفية "سنوات الجمر" القاسية. أثناء دراسته، أخرَج إدريس ثلاثية سينمائية نسوية بجماليات شعرية وتجريبية تتوافق مع تصوراته عن الفنون الملتزمة، الفيلم الأول منها "مارتا" (1969) يدور حول عاملة نسيج بولندية تتوزع حياتها بين المصنع والمعاناة مع زوجها المدمن على الكحول.

يقطع إدريس دراسته ويعود إلى المغرب ليخرج فيلماً، بعنوان "أطفال الحوز" (1970) من إنتاج وزارة الفلاحة المغربية ويدور حول بحوث عالم الاجتماع بول باسكون الميدانية في الريف المغربي. تتضافر سيرة باسكون مع تاريخ المغرب الحديث بصورة مدهشة ومأسوية، فباسكون المولود لأسرة من المستوطنين الفرنسيين في المغرب، يلتحق بالنضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي ومن ثم يمنح الجنسية المغربية بعد الاستقلال. إلا أن بحوثه تلك التي يوثقها إدريس في فيلمه، ويصفها بأنها "أغنية عن أبناء الفلاحين" لا ترضي السلطات. يخضع الفيلم للرقابة ويتم قص أجزاء منه وتضاف إليه نصوص جديدة بحسب مزاج الرقيب، ومع هذا لا يُعرض أبداً. (لاحقاً وفي سياقات منفصلة، تختفي أسرة باسكون في ظروف تظل مجهولة إلى اليوم، أما هو فسيلقى حتفه مع الباحث المغربي أحمد عريف في حادث سير غامض أثناء رحلة بحثية إلى موريتانيا العام 1985).

المنسي والمفقود والضائع والمجهول... هي المعاني المفتاحية لمحاضرة مورين وعملها بوجه أشمل، فهي تستعرض رحلتها الممتدة عشرة أعوام من البحث عن فيلم "أطفال الحوز"، عبر تفتيش في الأرشيفات المؤسسية والشخصية ولقاءات مع المشاركين في إنتاج الفيلم وأصدقاء مخرجه وعائلته، لكن بلا طائل. هذا البحث عن فيلم، هو نفسه فيلم عن البحث، وكما تؤكد مورين في العرض قناعاتها بأن الفيلم لا بد من أن يكون موجوداً في مكان ما، فإنها تلمح بالقدر نفسه إلى أن الاسترجاع ليس الغاية، بل إن البحث هدف في حد ذاته، في ما يكشفه عرضاً وعلى الحواف وما يحييه من سِيَر المنسيين.



يعود إدريس إلى بولندا لاستكمال دراسته، وهناك يقوم بإنتاج الفيلمين الأخيرين في ثلاثيته البولندية. الفيلم الثاني الذي يحمل اسم "إليزابيت ك"(1973) يدور حول أمّ معيلة تقضي ساعات عملها كموديل وهي مستلقية عارية في فصول الرسم في كلية الفنون وتحاول أن تتغلّب على وحدتها بتخيل أحاديث تجري مع الطلاب بينما يقومون برسمها. أما الفيلم الثالث والمعنون "أنشودة رثاء للمراهقين" فهو استعارة سينمائية سريالية لانتحار الطالب التشيكي جان بالاش، احتجاجاً على غزو القوات السوفياتية لبراغ العام 1968. منعت السلطات البولندية الفيلم وصودر في العام 1976. وكان انطلاق مظاهرات الطلاب في بولندا للمطالبة باشتراكية بوجه إنساني، إيذاناً بفرض السلطات تضييقاً على الطلاب الأجانب في لودز. ينتهي المقام بإدريس في باريس، بعد أن يطرد من بولندا ويجد الرجوع إلى المغرب محفوفاً بالمخاطر. وفي منفاه لا تبارحه مشاريع لأفلام عن وطنه، لا يتحقق أي منها حتى وفاته العام 2009.

(*) ألقت مورين محاضرتها يوم الأحد الماضي، بالصدفة بعد يومين من زلزال المغرب الأخير، والمعروف أيضاً باسم زلزال الحوز حيث إنه ضرب المنطقة نفسها التي يدور حولها فيلم إدريس المفقود "أطفال الحوز".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها