الثلاثاء 2023/09/12

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

مفارقات الماضي السوري وواقع الحال...عقلية الأسديين بوصفها إرثاً استعمارياً

الثلاثاء 2023/09/12
increase حجم الخط decrease
يثير استدعاء فكرة التقسيم من قبل المدافعين عن نظام بشار الأسد كلما تصاعد أوار الثورة ضده، سؤالاً ما انفك يلح على السوريين بكل طوائفهم وقومياتهم يقول: هل تستطيع فئة أو مجموعة أو طائفة أو قومية أن تذهب إلى عتبة الانفكاك من الجسد السياسي والإداري والجغرافي والثقافي لهذه الدولة؟

لا يتوقع أصحاب السؤال أن يعثروا على جواب، طالما أن الحالة الراهنة تقوم على معادلة قوامها وجود دولة يركبها نظام مستبد، يدعي أنه يمثل كل فئات المجتمع، ويخلط الأمور ببعضها حين يكرر أنّ الثورة ضده تستهدف الوطن برمته، وأن من حاولوا إسقاطه هم عملاء للجهات المتآمرة عليه، ويفسح المجال عبر إعلامه لجحفل من "المحللين" الذين يدللون على هذه الفكرة المركزية من خلال معلومات تاريخية مغلوطة، تتركّز على الرايات المرفوعة في الساحات، فيصبح علم استقلال سوريا هو علم الانتداب الفرنسي، وعلم الحدود الخمسة الدرزي علماً للانفصاليين الذين "تضخ الأجهزة الاستخباراتية المال لهم" من أجل استكمال المؤامرة.

يظهرُ النظام من خلال ما سبق، في هيئة الحامي للكيان الوطني، لكن سياساته التدميرية التي كرسها منذ خمسين سنة، والتي ظهرت بتركيزها الصريح العالي المستوى في سنوات الثورة منذ 2011 وحتى الآن، تكشف أن اللعب بالوقائع، وتزويرها، واختلاق الأكاذيب وتحويلها إلى حقائق، لم تكن خطوات يفرضها دفاعه عن وجوده، صنعها بنفسه، بل إنها كانت جزءاً من سياسات كانت قد رتبت في المنطقة قبل عقود، ولاسيما في مرحلة الانتداب الفرنسي، هدفت إلى تكريس بيئة مضطربة، تتنازعها المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع بث دوافع هوياتية يمكن التحكم بها، من أجل مفاقمة الواقع المزري وجعل السيطرة عليها مهمّة مستحيلة، تواجه أي دولة وطنية تنشأ في هذا الحيز الجغرافي، ويهددها دائماً بالانهيار.

كيانات
لم تنشأ أفكار الانفصال والتقسيم لدى السوريين المزعومة من داخل عقولهم، بل حُملت إليهم على العربات ذاتها التي جاءت بجنود فرنسا وضباطها إلى أراضيهم، وبينما كان مشروع الدولة الوطنية الذي قرره المؤتمر العام السوري المؤسس للمملكة بين العامين 1918 و1920، يقوم على وحدة بلاد الشام، جرت قصقصة الجغرافيا التاريخية لتصبح أقل.. فأقل.. ثم جرى تكوير المساحات المتبقية على شكل كيانات، يتم اللعب بتقسيمها وضمها، وفق إملاءات المصلحة الانتدابية!

غير أن ما فعلته فرنسا لم يكن ليمر على السوريين، الذين تمردوا ثم أعادوا تشكيل وطنهم لاحقاً، ولا حتى على مواطنيها أنفسهم! لاسيما أولئك الذين أتوا إلى المكان ليتحروا الحقيقة بأنفسهم، فقبل مئة سنة، أمست سوريا هذه، مكاناً مرغوباً لبعض الفرنسيين، ممن يحبون معرفة أسرار الشرق، ويرغبون في معرفة ما الذي يفعله جيش بلادهم فيه.



ومن بيروت إلى الموصل ومن القدس حتى أضنة وعنتاب في الشمال، كانت خطوات هؤلاء تقودهم لمعرفة من هم العرب والترك والكرد والأرمن والسريان والأشوريين وغيرهم، وكانت آذانهم تحف بالألسنة/اللغات، فضلاً عن غرق عيونهم في فضاءات المواقع الأثرية، ما جعل مرورهم في المكان مغامرة معرفية وحسية في آنٍ معا، يكتنفها التفكير في علاقة البيئات المتعددة ببعضها، وكيف تُصاغ من خلال تحكم الإدارة الفرنسية، وأي مستقبل يمكن أن يحوزه السوريون بعدما دمرت فرنسا كقوة مستعمِرة تحمل اسم الانتداب، تجربة الدولة السورية الأولى، أي مملكة فيصل بن الحسين التي انتهت مع خسارة يوسف العظمة لمعركته الباسلة في ميسلون أمام جند الجنرال غورو.

دمشق تحت القنابل
سجلت الكاتبة الفرنسية إليس بوالو في كتابها "دمشق تحت القنابل" بعض وقائع سنوات الغليان ومقارعة الاحتلال في الثورة السورية الكبرى، لا سيما القصف الرهيب الذي تعرضت له مدينة دمشق، وأفضى إلى تدمير جزء من معالمها، ولم تنس في السياق أن تذكر ما لاحظته عن عدم اهتمام الدمشقيين بقرارات تقسيم سوريا إلى دويلات، ولا مبالاتهم بقرارات معاكسة تهدف إلى دمج دويلة حلب بدويلتهم، فهؤلاء لا يشعرون بأن تقسيم الأمكنة التي يروحون ويجيئون فيها سيغير من الواقع شيئاً!

غير أن تجربة جوزيف كيسيل، الذي زار دمشق لمرتين وقرأ فيها توجهات الإدارة الفرنسية نحو تأسيس معضلات مستقبلية وزرع قنابل قد تنفجر بالسوريين لاحقاً، لم تُقرأ بشكل واسع، رغم أن النص الذي وضعه عن زيارته سبق له أن نشر في الصحافة الفرنسية، كما أن وصول النص بعد عشرات السنوات إلى القارئ السوري بلغته العربية بترجمة وتقديم المغربي سعيد بوخليط وإصدار دار خطوط وأزمنة، لم يضعه على طاولات القراء الذين يبحثون في اللحظات المخفية من التاريخ، ويتوقعون بشكل دائم أنها تحتوي شذرات من الحقيقة الغائبة، التي لا يمكن لأحد من دونها أن يفهم ما يجري راهناً في هذه المنطقة!



يجول كيسيل في كتابه "في سوريا" عبر فضاء السياسات العامة والمحلية التي اتبعها قادة الانتداب، ويُظهِر كيف أن اشتغالهم على تفكيك الحالة الاجتماعية للجماعات، بدأ من خلال فرز السكان عبر الهويات الضيقة، من دون إيلاء المشتركات بينهم ما يجب أن تستحقه في حال تم وضعها في مختبر دراستها، وهو يدرك أن القضية تبدأ من خلال أسلوب التعامل مع هؤلاء، الأمر الذي يظهر قصدية عميقة، كانت تميل إلى تكريس المشاكل في الواقع، فلا تترك المجال حتى للصادقين من الضباط الفرنسيين الراغبين في إيجاد حلول لمشاكل الواقع أن يعملوا، إذ لم يبق أي صاحب قرار في منصبه مدة تكفي، لأن يفهم الطبيعة المحلية، كي يعرف ما الذي يجب أن يفعله!

يُصرح كيسيل لمواطنيه وهو يخاطبهم من خلال تقاريره الصحافية، بحقيقة انسداد الآفاق أمام الوجود الفرنسي في المكان فيقول: "نريد أن نخلق لدى السوريين الانطباع بعدم الاستقرار والتغير، ونظهر إلى العالم العجز، بمواصلتنا لمجهود، يخلق الاشمئزاز لدى الساكنة من نظامنا الانتدابي، باختصار، نريد أن نخسر سوريا، إذا لم نشرف على شؤونها بطريقة مغايرة".

واقع سوريا
تبعاً لما سبق، يمكن تلمس العديد من التشابهات بين واقع سوريا المحتلة من قبل الانتداب، الذي امتلك ما يكفي من القوة التدميرية ليحيل حياة السوريين إلى اضطراب استمر أكثر من ربع قرن، ولم يغادرها إلا بعد زرع ألغام مازالت تنفجر فيتعرض الجميع لأضرارها... وبين واقع سوريا الراهنة، حيث تتم الهيمنة على الأرض من خلال قوى تمتلك العقلية ذاتها التي جاءت بها فرنسا قبل قرن كامل، ففرضت على السكان بقوة السلاح والفرض الأيديولوجي أن ينسوا هوياتهم، الأمر الذي يجعلهم يتلمسونها في أقرب الفرص التي تمكنهم من ذلك. فحين يجدون فيها ما يدعم توجههم نحو الحرية والتخلص من سيطرة النظام القمعية، لا بد من أن يستدعوها لتعبّر عنهم، بوصفهم جزءاً من الكل الذي صنع في الماضي استقلال سوريا!

وفي المقابل لن يكون صعباً على أي متابع عقد المقارنات بين ما صنعه أولئك الذين قاتلوا تحت رايتهم المحلية، وبين ما صنعه النظام الذي يدعي امتلاك التفويض الوطني بأحوال من حكمهم ويحاول استعادة السيطرة عليهم حالياً. فبدلاً من وجود قوة احتلال واحدة طُردتْ، بات على السوريين أن يواجهوا قوى احتلال متعددة تقاسمت جغرافيتهم (إيران وروسيا بشكل أساس)، جاء بها الأسد الابن ليحمي وجوده ويضمن استمراره، فانتهى دمية في أيديها، لكنه لا يمل من اتهام المنتفضين ضده -بوقاحة قل نظيرها- بأنهم يريدون أن يقسّموا سوريا!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها