لعلّ الرسائل والمعاني الأولى التي تتبادر إلى الذهن وتخطر في المخيلة مع حلول الذكرى المئوية لرحيل السيد درويش البحر (مارس/آذار 1892- سبتمبر/أيلول 1923) هي تلك المتعلقة بالثورية والتمرّد والانفلات وقدرة البشر على تحطيم القيود وإحداث التغيير. ففنان الشعب وباعث النهضة الموسيقية وإمام الملحنين وخالد الذِّكر، مثلما تفيد ألقابه الكثيرة، هو قرين حالة تاريخية ومجتمعية وثقافية وفنية استثنائية، تكسبه مقامًا إنسانيًّا ودورًا طليعيًّا خاصًّا في مصر الحضارة والأمل والحرية والوعي والحراك، خلال الثلث الأول من القرن العشرين.
ومن باب الاختصار المخلّ بالتأكيد تقليص مسمّيات سيد درويش في الملحّن والمطرب والممثل، وإن زيدت بعدها مفردة الفذ أو العبقري. وأيضًا تكون محاولات تقصّي آثار درويش وتتبُّع منجزه وقيمته وعطائه مبتورة إذا هي اقتصرت على جانب واحد فقط من جوانب شخصيته، وإن كان الوجه الفني البارز المضيء.
ثمّة تشابه عجيب بين توقُّد ظاهرة سيد درويش، واندلاع ثورة 1919، فكلاهما صوت مصر التلقائي، الشعبي، المتمرّد، الحرّ، المنبعث كشعاع حي لخلخلة الأرض البور وشق الظلام ومقاومة الكساد والفساد في كل شيء، حتى في الذائقة المتجمّدة المحنّطة. الانتفاضة أيضًا عنوانهما معًا، ثورة 1919 ضد المستعمر البريطاني، وسيد درويش ضد الموروث البالي من الفن العثماني التركي الجاثم على الصدور.
وهكذا، التقى الميدانان: ميدان النضال الوطني، وميدان التثوير الطربي والموسيقي. فصدح سيد درويش بالطقاطيق والأدوار والمونولوجات والموشحات والأناشيد والأعمال الأوبرالية والمسرحية المشحونة بالتفجير، التي تعيش إلى يومنا هذا: "بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي"، "أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الأهرامين"، "قوم يا مصري مصر دايمًا بتناديك"، "دقت طبول الحرب يا خيالة"، وغيرها.
وحسنًا فعلت وزارة الثقافة المصرية، ممثلة بالهيئة العامة لقصور الثقافة، بإصدار كتاب ملحق بمجلة "الثقافة الجديدة" (سبتمبر 2023) بعنوان "سيد درويش.. 100 عام على الرحيل". وأمر جيّد أن تتنوع موضوعات الكتاب لتشتمل على تلك التجليات المتعددة المشار إليها في تجربة سيد درويش، الفنية والاجتماعية والسياسية، وذلك بهدف محاولة معرفة "سر خلود سيد درويش"، الذي تتجاوز أهميته "أنه الموسيقار الفلْتة الذي صنع التطور الحقيقي للموسيقى المصرية، والعربية أيضًا، وأن ألحانه كانت النبع الأول الذي نهل منه محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، ولا تزال إلى اليوم مهيمنة على إنتاجنا الفني".
وهكذا، يتعاطى الكتاب مع سيد درويش كظاهرة إبداعية وشعبية وثورية شاملة، فهو ذلك المهلم الذي "نقل الموسيقى من جو التطريب الذي كانت تعيش فيه، إلى جو الارتباط الحقيقي بحياة الشعب ومشاكله، ولهذا لم يستطع أحدٌ على مدار قرن كامل أن ينافسه على لقب فنان الشعب"، على حد تعبير مقدمته. أما فصول الكتاب، فتستند إلى شهادات مجموعة من مجايلي درويش، وهم: بديع خيري، توفيق الحكيم، زكي طليمات، محمد عبد الوهاب، وذلك إلى جانب مجموعة من الرؤى والكتابات الجديدة، ومقال يبحث في أسباب موته المبكر عن 31 عامًا.
لكن، أي استعادة هي لسيد درويش على صفحات الكتاب الأربعين؟ وإلى أي مدى ينتمي هذا الاستدعاء إلى طبيعة درويش نفسه، الثورية، المتجاوزة، المتمردة، المنغمسة حتى النخاع في التجديد وتخطي السائد والمكرور؟ إن تنوّع مواد الكتاب التي تتناول الجوانب المتعددة لشخصية سيد درويش وإسهاماته الثرية الكثيرة، يعكس سعة أفق النظرة التي يرى بها القائمون على الكتاب درويش بطبيعة الحال، وهي نظرة تضعه في المكانة اللائقة. لكن، هل توازى الجهد العملي المبذول داخليًّا في إعداد الكتاب، مع هذه النظرة التنظيرية الخارجية؟
وبتعبير آخر، هل جاء كتاب سيد درويش مغايرًا وتجديديًّا وكاشفًا وتثويريًّا في محتواه الأغلب، ليتماشى في أبسط معطياته مع الكيان الدرويشي محل البحث، الذي هو كتلة مشتعلة من التجديد والكشف والتثوير والتمرد وكسر أفق التوقع؟
لو مضى إصدار الكتاب، والترويج الدعائي المسبق له، في سياق التوثيق والتدقيق والأرشفة المعلوماتية الأمينة وما إلى ذلك، لما اقتضى المقام طرح مثل هذه التساؤلات. أما أن يُصدّر الكتاب باعتباره "عملًا فارقًا" في "عدد تاريخي" من مجلة "الثقافة الجديدة"، فهنا يصير التمحيص واجبًا لما يحمله بين دفّتيه من مواد.
والاختبار هنا ليس اختبار أهمية ورصانة، لكنه اختبار جدّة وأصالة. فالجديد والأصيل بين محتويات الكتاب يقتصر على تلك النوافذ الحديثة القليلة، التي أطلت منها أقلام باحثين ومبدعين معاصرين، قدّموا لقطاتهم وومضاتهم في ما جادوا به من اجتهادات، وهم كل من: القاص والناقد شريف صالح، الشاعر والمسرحي ميسرة صلاح الدين، الشاعر والباحث عبد الرحمن الطويل، المطربة والباحثة الموسيقية فيروز كراوية، التشكيلي عصمت داوستاشي.
أما الموادّ الكثيرة، التي استهلّ بها الكتاب ربما اعتقادًا من صُنّاعه بأهميتها ورصانتها، فهي تجسّد النقل المسطري والاستسهال بعينه في استدعاء صورة سيد درويش المعروفة بالضرورة لدى العامّة، ناهيك عن النخب الخاصّة. وتضم هذه الموادّ، بشكل حرفيّ ومن دون أي تعليق أو معالجة تحريرية، مجموعة مقالات وآراء نُشرت من قبل في مجلتي "الكواكب" و"روز اليوسف" بمصر في ستينيات القرن الماضي، وفي كتاب "فنان الشعب" الصادر العام 1963. ومنها: مقالان لبديع خيري هما "من ذكرياتي عن سيد درويش" و"أبوسك يا تراب إسكندرية"، ومقال لمحمد عبد الوهاب بعنوان "لو عاش سيد درويش"، ومقال لصلاح عبد الصبور "عبد الوهاب وإحسان وأنا في قفص الاتهام"، ومقال لتوفيق الحكيم "الذي رأى من أسرار الفن أكثر مما نرى"، ومقال لزكي طليمات بعنوان "الموسيقار الذي أطرب الناس".
وتعطي هذه المقالات المنقولة نبذات مستهلكة وعاطفية عن شخصية سيد دوريش وتجربته في تجديد الموسيقى والغناء والوصول بها إلى طوائف الشعب المصري، وتطويره للمسرح الغنائي، والفن الاجتماعي والسياسي، إلى جنب حصر لأعماله وتعريف بها وما إلى ذلك، ونوادر وطرائف من حياته (كانشغاله بالتلحين عن ليلة زفافه)، وإشارات من ذكرياته الشخصية مع كُتّاب المقالات، بالإضافة إلى اجترار ملابسات قضية وفاته، وهل مات بسبب تعاطي المخدرات أم بالسكتة القلبية أم مقتولًا بيد عاشق غيور أم بيد المحتلّ البريطاني، إلى آخر هذه المختارات الشائعة والمحفوظة من سيرة فنان الشعب.
وفي القسم الأخير من الكتاب، وما أقلّه، تأتي لمحات الدهشة بأقلام النقّاد والباحثين، الذين قدّموا قراءاتهم الجديدة الأصيلة لسيد درويش، انطلاقًا من معارفهم وخبراتهم وانطباعاتهم الذاتية. ومن هذه الالتماعات مثلًا ما طرحه شريف صالح عن علاقة مسرح سيد درويش بقوة التعبير والتغيير، وكيف أنه لم يقدم إبداعًا مستعارًا من الغرب ومتماهيًا معه، وإن استفاد منه قطعًا، ووصل نفسه بتراثه المصري والشرقي، ولم ينظر إليه بدونية، كما أنه لم يقدم نتاجًا مبتذلًا لكسر الإطار النخبوي، وإنما وصل إلى الشعب على اختلاف طبقاته وأطيافه، بأعمال رفيعة المستوى.
وتحت المظلة التحليلية ذاتها، أسهمت فيروز كرواية بقراءة عنوانها "في مراجعة الآثار والأثر" تناولت فيها كيف أن دخول شركات الأسطوانات لمصر فى العام 1904 وتوسعها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى العام 1918 بالإضافة إلى اتساع مشهد المسرح الغنائي، هي كلها عوامل جعلت الأدوار والطقاطيق التي أنتجها سيد درويش هي أبقى آثاره، على عكس القصيدة والموشح التي هي قوالب غنائية لم تحظ بالاهتمام نفسه بتسجيلها، ولا يزال ما حُصر من إنتاج درويش في الموشحات محل خلاف من ناحية التوثيق.
واشتمل الجزء الختامي أيضًا من الكتاب على مقالات أخرى ذات رؤية ووعي وجهد، منها "غياب باكر وحضور فسيح" لعبد الرحمن الطويل، و"الخيال الذي لا يشبه الواقع في شيء" لميسرة صلاح الدين، وفيه يفنّد مصداقية أحداث فيلم "سيد درويش" (عام 1966) للمخرج أحمد بدرخان وبطولة كرم مطاوع، باعتباره فيلمًا فقيرًا لم يقدم الأبعاد الجسدية والنفسية والفنية لفنان الشعب. كما أسهم التشكيلي عصمت داوستاشي ببورتريه من كلمات عنوانه "بيت سيد درويش.. لحن حزين في كوم الدكة"، انتقد فيه تأخر تخصيص متحف قومي كبير لسيد درويش في الإسكندرية، سواء في مكان بيته القديم بمنطقة كوم الدكة أو في أي مكان آخر، وهي قضية تجدد ذاتها بقوة بين حين وآخر، على مدار نصف قرن مضى.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها