الإثنين 2023/09/11

آخر تحديث: 16:05 (بيروت)

"ساحر الكرملين".. أو العقل الباطني للشرير بوتين

الإثنين 2023/09/11
"ساحر الكرملين".. أو العقل الباطني للشرير بوتين
ساحر الكرملين
increase حجم الخط decrease
رواية "ساحر الكرملين" التي صدرت بالفرنسية العام الماضي عن دار "غاليمار"، ما زالت تحقق أرقاماً قياسية في المبيعات، بفضل الدعاية الواسعة التي حظيت بها في الصحافة، واهتمام شخصيات سياسية ثقافية، ترى فيها مادة غنية لفهم واقع روسيا اليوم، وخلفيات قرار الرئيس فلاديمير بوتين شن الحرب على أوكرانيا. وتساعد على ذلك الطريقة التي قدم بها الكاتب الإيطالي السويسري جوليانو دا إمبولي، شخصية بوتين الملقب بالقيصر، لأنه أعاد الاعتبار للمرحلة القيصرية، وخاصة عائلة رومانوف التي حكمت روسيا ثلاثة قرون، ولذلك يعلق في مكتبه في الكرملين صورة نيكولا الثاني آخر قياصرة روسيا، الذي أعدمه البلاشفة بعد ثورة 1917.

تحاول الرواية أن تسير على خيط رفيع بين الواقع والخيال. ولأن أحداثها تدور في الواقع، من اليسير على القارئ أن يكتشف أن فاديم بارانوف الذي يسند إليه دور الشخصية المحورية هو، مستشار بوتين فلاديسلاف سوركوف، المعروف عنه أنه ساهم بشكل حاسم في تشييد سلطة الرئيس الروسي، خلال السنوات الخمس عشرة التي أمضاها في خدمته. وقد وصفته الصحافة في أكثر من مناسبة بأنه العقل المدبر لسياسات بوتين ومستشاره السياسي، من حرب الشيشان إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، مروراً بالألعاب الأولمبية في سوتشي. وهو صاحب مصطلحين مهمين في السياسة الداخلية الروسية، الديموقراطية السيادية، والبوتونية. وكلاهما يذهب في اتجاه حكم أبدي لبوتين.

ترجع الرواية في بعض محطاتها إلى ماضي روسيا البعيد، كي تعود بقوة ومباشرة نحو الحاضر، لتصف كواليس السلطة، وخبايا عهد بوتين بأسلوب مشوق، يقترب من السرد البوليسي، بواقعية فجة، في تأمل السلطة وخفاياها، واستعادة للأحداث الدولية على نحو يقدم القيصر بصورة إيجابية.

تنطلق الرواية من عودة الكاتب إلى نبش رواية "نحن" للكاتب الروسي المعروف في بداية القرن العشرين يفغيني زامياتين، الذي يعتبره "الملك السري لعصرنا"، وذلك بفضل سيرته الاستثنائية، إذ اعتقلته السلطات القيصرية العام 1905، وأرسلته للمنفى، وعاد العام 1918 بعد سقوط القيصرية، ليكتب تلك الرواية في العام 1922، والتي تعد مأثرة في هجاء النظام الجديد، و"المشكلة الوحيدة هي أنه فهم كل شيء بسرعة كبيرة، وكان لديه التهور الكافي لكتابة ما فهمه"، وهذا ما قاده إلى السجن الشيوعي.
يلتقي الروائي ومستشار بوتين الذي تقاعد عند زامياتين، والرسالة التي حررها إلى ستالين العام 1931 يطلب فيها تخفيف عقوبة الإعدام: "بالنسبة لي، بصفتي كاتباً، فإن الحرمان من الكتابة، يعادل عقوبة الإعدام". النسخة الأصلية من هذه الرسالة بحوزة المستشار الذي يطلع الكاتب عليها، حينما استضافه في منزله داخل مكتبة ورثها عن جده القيصري، ووالده الشيوعي. ولذا يدور الحديث حول هاتين الشخصيتين، بوصفهما من نظامين وأسلوبين مختلفين في الحياة والسياسة والثقافة، وهذا عائد إلى انتماء كل منهما إلى عصر له رجاله. القيصرية تعود إلى الفروسية والصيد والرجولة، والشيوعية تعلم الخضوع، وتنشر الخوف.



بعدما افترق عن حبيبته كزينيا، لأنها صارت تميل إلى صديقه ميخائيل خودوركوفسكي، الذي كان في أول الطريق ليصبح أحد رجال الأعمال الكبار في روسيا الجديدة، أدرك أن المسرح لم يكن قادراً على إرضاء الطموح الذي استيقظ بعد انفصاله عنها. لم يعد بإمكانه تحمل الحزن المميت للأديب، في عجزه عن الشعور بالسعادة، وعدم قدرته على مواجهة الواقع المعاصر، محملاً بالحزن العميق الذي يرافقه أينما ذهب، والحداد المتواصل على فقدان ثقافته. ولذا أراد أن يكون جزءاً من العصر الذي يعيش فيه، لا مجرد شاهد. وكلما ابتعد عن رفوف المكتبة، نضجت قناعاته بقدرته على مواجهة الوضع، وصار يبحث عن اللحظة والفرصة المناسبة التي سيركز عليها كل حياته، طالما كان غير المتوقع من أبرز الصفات العظيمة للحياة الروسية. وكان قد بلغ ذروته في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حيث انفتحت كل مسارات العالم، وكسب الأموال، والسفر إلى كل أرجاء الكوكب، ومعاشرة أجمل عارضات الأزياء.

يسمي المستشار تلك الفترة فقاعة موسكو، وهي كناية عن جملة التطلعات المتراكمة لبلد بأكمله، انغمس على مدى عقود في سبات شيوعي طويل. ولذلك قرر تحويل تجربته المسرحية إلى مهنة الإنتاج التلفزيوني في القناة الأولى، التي صارت ملكيتها مشتركة بين الدولة والملياردير الشهير بوريس بيريزوفسكي. وباشر في إنتاج برامج لتلفزيون الواقع عن قضايا تافهة، تلقى متابعة كبيرة من الروس، وحينما حاول اجراء مسابقات عن الشخصيات العظيمة في تاريخ روسيا من الأدباء والسياسيين كان الفوز حليف ستالين. وهذا ما أوصله إلى نتيجة "إن روسيا لن تصبح مثل سائر البلدان".

يحتل بيريزوفسكي، الذي عثر عليه مشنوقاً العام 2013 في أحد منتجعاته قرب لندن، مساحة أساسية في الرواية. كان قصره في العاصمة وقتئذ، يضم أفضل ما انتجته "في السياسة والتجارة والعروض الصاخبة والجريمة المنظمة"، حيث يمكن لاجتماع حول مشروع عمل أن يتحول إلى "حفلة عربدة، هكذا كانت السلطة في موسكو". لكن السياسة بالنسبة لهذا الملياردير لعبة روليت روسية، "كل ما يتوجب عليك معرفته هو مدى استعدادك للدخول في مراهنات". وكانت أمامه مهمة إحياء بوريس يلتسين في استطلاعات الرأي، وبينما هو على وشك الموت صنع له صورة جديدة من خلال تصوير أن انتخاب منافسيه، وخاصة يفغيني بريماكوف، سيتزامن مع إعادة فتح معسكرات الغولاغ في سيبيريا، واستئناف طوابير الخبز. وبذلك نجح في إعادة انتخاب يلتسين الذي دخل في مرحلة من الخمول، بينما أصبح هو نفسه القائد الحقيقي لروسيا، وبذلك أدخل فاديم بارانوف في اللعبة عندما بدأ التحضير لمرحلة ما بعد يلتسين، وحينها عثر على حصانه الرابح في رئيس جهاز الأمن الفيدرالي (كي جي بي سابقا) فلاديمير بوتين، الذي "يمتلك اللياقة الكافية لشغل الوظيفة"، شرط وضعه في يد الفريق الإعلامي، الي سيحوله إلى "ألكسندر نيفسكي الجديد، أو غريتا غاربو".

لم تكن مهمة إقناع بوتين سهلة، فقد بدا متردداً في قبول هذا العرض، وأبدى رفضاً لأنه لا يجد في نفسه الكفاءة لشغل هذا المنصب. لكنه في حقيقة الأمر كان يريد أن يدخل هذه التجربة بالاعتماد على نقاط قوته، لأن "رئيس روسيا لا يمكن ولا ينبغي أن يخضع لأحد"، وهذا ما أكده في لقاء منفرد مع بارانوف، حين عرض عليه أن ينهي علاقته مع بيريزوفسكي، ويعمل معه مباشرة. وهذا ما حصل وكانت البداية حينما تعين بوتين رئيسا للوزراء في آخر عهد يلتسين، وفي الوقت الذي بدأت فيه حرب الشيشان تصل إلى موسكو، وتدوي الانفجارات الضخمة في بعض أحيائها. وهي التي يصفها المستشار بـ11 أيلول الروسي، والتي تلاها تصريح بوتين الشهير" سنضرب الإرهابيين أينما كانوا. إذا كانوا في مطار سنضرب المطار، وإذا كانوا يقضون حاجاتهم، فسوف نقتلهم في مراحيضهم". وكان ذلك بمثابة رسالة إلى الروس بان هناك رجلاً في قمة هرم السلطة قادر على فرض النظام من جديد. وفي ذلك اليوم أصبح قيصراً، هدفه الاستجابة لمخاوف الناس، الأولوية بالنسبة له، هي إعادة تثبيت السلطة أكثر من أي وقت مضى، وبعد زيارة إلى الجنود في جبهة حرب الشيشان في ليلة احتفالات رأس العام 1999، أدرك المستشار أن بوتين ينتمي إلى ما أسماه المنظّر المسرحي الروسي ستانيسلافكسي "سلالة الممثلين الكبار"، الذي لا يحتاج إلى التمثيل، لأنه مستغرق جداً في الدور. غير أن مركز السلطة "قلبٌ لا يتحكّم به منطق مكيافيلي، بل هو مركز اللاعقلانية والأهواء، حيث ينعم الشرّ بحرّية مطلقة ويتقدّم حتماً على العدالة، وحتى على المنطق الصافي البسيط".



تتوقف الرواية في كل محطة من محطات صعود بوتين وتقدمه على أنه مخلّص روسيا من السقوط الذي أراده الغرب لها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومع ذلك تنقسم الآراء في فرنسا حول الرواية، التي يتمتع كاتبها بخيال سياسي جامح ويبدو مفتوناً بشخصية بوتين، بين من يعتبرها كليشيهات الدعاية الروسية، ومن يرى فيها مفتاحاً لفهم الرئيس الروسي، وخاصة حرب روسيا على أوكرانيا، التي تعد تشكل محور اهتمام القيصر.

وتتضمن صناعة شخصية القيصر، تفاصيل كثيرة منها صداقاته، أو مَن يصفهم المستشار بنبلاء الإمبراطورية الذين راكموا ثروات تكاد تضاهي ثروات أمراء الخليج، "كان لدى بوتين أصدقاؤه، مجموعة منوعة من لاعبي الجودو، والجواسيس، ورجال الأعمال الذين شاركهم المراحل المختلفة من الحياة الغامضة التي مر بها قبل وصوله إلى أضواء الكرملين".


هناك مساحة كبيرة في الرواية لمسؤول قوات فاغنر السابق يفغيني بريغوجين الذي التقاه المستشار في إحدى المناسبات، "كنا أربعة أو خمسة، تجمعنا الصالة الخاصة في مطعم مليء بالمرايا والثريات. عرفني بوتين على صاحب المكان. رجل أصلع بعيد تماماً عن لفت الانتباه، يبتسم بتواضع. طوال مدة الوجبة لعب دوره بإتقان، واصفاً الأطباق المختلفة ومقدماً النبيذ الفرنسي". ويقول ان بوتين طلب منهما التعاون، وفي اليوم الثاني اصطحبه بريغوجين بطائرة مروحية إلى جزيرة اشتراها أصدقاء القيصر وعمروا فيها قصوراً خاصة تتجاوز الخيال، ويمتلك فيها بريغوجين كازينو للعب القمار... والاستنتاج الذي خرج به المستشار: "أذهلني غباؤه".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها