الأحد 2023/09/10

آخر تحديث: 08:03 (بيروت)

"كائنات مسكينة" ليورغوس لانثيموس.. ملذّات اكتشاف العالم

الأحد 2023/09/10
increase حجم الخط decrease

فاز فيلم "كائنات مسكينة" للمخرج يورغوس لانثيموس بجائزة الأسد الذهبي لمهرجان البندقية السينمائي (31 آب /أغسطس – 9 أيلول/سبتمبر الجاري)، في قرارٍ لم يكن مفاجئاً كثيراً من الناحية الفنّية، نظراً للإشادة النقدية الواسعة التي نالها الفيلم منذ عرضه الأول. عملٌ غريب وجريء وثري ومفتوح على النقاش وتقليب الأسئلة.

هناك شيء مُراهِق في العديد من الأفلام المعروضة في المسابقة الرسمية لهذه الدورة الثمانين لمهرجان البندقية السينمائي. شيء يتضح ويتجلّى في الانجراف الإجرامي لبطل فيلم "دوغمان" للوك بيسون، وفي مقاربة شخصية الديكتاتور بينوشيه من زاوية الرعب والبشاعة في "الكونت" لبابلو لاراين، ولكن أيضاً في أحدث أعاجيب يورغوس لانثيموس، "كائنات مسكينة"، المتوّج لتوّه بالجائزة الكبرى للمهرجان. القول بالمراهقة لا يعني إشارة إلى الأفلام التي يسكنها مراهقون، ولا إلى منظور الشخص المسؤول عن الحبكة. إنما إلى وجود شيء من الحاجة إلى الإعلان والانتماء، ورفع الصوت أقرب إلى نوبة الغضب منه إلى التحليل النقدي. ولا ينبغي أن يؤخذ هذا باعتباره عنصراً سلبياً بالضرورة، فأنا أشير فقط إلى حقيقة ينبغي التفكير فيها بمزيد من الوقت والتفصيل.

في "كائنات مسكينة"، يعود لانثيموس إلى ما صار أسلوبه المميّز وعلامته التجارية: نظرة مركّزة ومن المفترض أنها موضوعية (جليدية أو علمية، كما سيشير آخرون) على كائن معيّن يتم تحليله بمنطق - نظراً لعدم ارتباطه بعناصر أخرى – ينحو صوب التغريب والدسائس. كما في أفلامه السابقة، تكرّر الآلية نفسها: تُطرَح فرضية، وتوضع قواعد معيّنة، ثم يجري الالتزام بها حرفياً. الافتقار المستمرّ والمقصود لسياقٍ واضح أو تاريخي هو ما يولّد هالة العمق الفلسفي التي يعتقد كثيرون وجودها في أعمال المخرج اليوناني. هذا موجود أيضاً في هذا الفيلم الغريب والرائع، ولكن هناك ايضاً روح دعابة، كما لم يحدث من قبل. فكاهة لا تُولد من إقلاق راحة أو هراء درامي أو استفزاز فكري، بل من بحثٍ محدَّد وملموس لتشييد كوميديا بطريقة أو بأخرى.

وبطبيعة الحال، فالشعار السائد، كما هو الحال في جميع أفلام لانثيموس، لا يمكن أن يكون بسيطاً. باستخدام عناصر ومناخات تشير إلى كلّ من فرانكنشتاين وجزيرة الدكتور مورو، يبني المخرج اليوناني حكاية يمكن فيها لبيلا باكستر (إيما ستون المدهشة دائماً) تجربة شيء مشابه للحياة الثانية. شيئاً فشيئاً نعرف المعلومات اللازمة للتورّط في حدوتة الفيلم عندما يطلعنا عليها الدكتور غودوين باكستر (ويليام دافو، الذي يناسبه تماماً دور هذا الطبيب المجنون والعبقري والأبّ المفترض لبيلا، وليس من المصادفة أبداً أن اسمه الأول Godwin يحتوي على كلمة الربّ God)، الذي أنقذ بيلا من موتها وأعادها للحياة مستعيناً بمخّ جنينها الذي صار الآن في دماغها. جسدٌ أنثوي تامّ ومكتمل بدماغ طفل رضيع. عليها أن تتعلم كل شيء من جديد: كيف تتكلم، وكيف تأكل، وكيف تتعامل مع الآخرين. لكن بيلا ذكية للغاية، وفضولها بشأن ما يحيط بها لا يمكن كبته: فالطبيب الذي قام في هذه الأثناء بتعيين مساعدٍ شابّ هو ماكس (رامي يوسف)، الذي يقع في حبّ بيلا في وقت قصير، يرغب في الحفاظ عليها آمنة من أخطار الخارج، ويريد دراستها، أو ربما يحتفظ بها لنفسه. لكن إرادة المرأة/الطفلة عنيدة. وهكذا تودّع بيلا، غودوين (أم نقول الربّ؟) وماكس، للسفر مع محامٍ لعوب (مارك روفالو المضحك والرائع في هذا الدور) أٌعجب بها وانجذبت إليه جنسياً.

من دون الدخول أكثر في القصّة، فالجماليات والتصميم الفني، واستخدام الزوايا الواسعة جداً وكاميرا عين السمكة، وإحداث/ تعيين زمن غير محدّد للقصّة تتلاقى فيه عناصر ماضية مع لمسات مستقبلية... كلها عوامل تؤكّد النبرة الرمزية للقصّة، فيما التصميمات الداخلية الغريبة ذات الطابع الفيكتوري مع الأخرى المستقبلية تبدو وكأنها تنتمي لعالمٍ آخر، لكنها في الوقت ذاته تجعل الفيلم، بطريقة ما، واقعياً يمكن تصديقه.

هنا، سينما يورغوس لانثيموس تلعب نفسها أو مع نفسها. يفعل ذلك من خلال جسد إيما ستون المتواجد في مكان ما بين فرانكنشتاين وباربي، والمتجاوز فضاءات زمنية ومجتمعية. ربما يعود هذا لامتلاك المخرج اليوناني رؤية مفادها أن بطلته يمكنها العيش في أي عصرٍ سينمائي بشكل أكثر وضوحاً مما فعلته في الفيلم الموسيقي الراقص "لا لا لاند" للمخرج داميان شازيل (بالمناسبة، هو رئيس لجنة التحكيم التي توّجت فيلم لانثيموس في المهرجان). في البداية كـ"فتاة برّية"، ثم مخلوقاً يبحث عن الجنس ولكن أيضاً عن الرغبة، وفي النهاية سيّدة قرارها ومصيرها. رغم ذلك، لا يزال هناك سياق مجنون لا يمكن تصوّره - وهذا بالضبط سبب إصرارنا عليه - بين بيلا باكستر وباربي. كلتاهما تعيشان في عالمٍ تهيمن عليه مساحة طويلة لا نهاية لها من الديكور السينمائي، والأكثر أنهما أصبحتا من لحمٍ ودمّ، ما يضع خيالهما في أزمة. تتمتع بيلا بحياة مزدوجة، ذات بعدين، تماماً مثل بيلا سوان (كريستين ستيوارت) في ملحمة "الشفق" Twilight. هل يمكن أن تكون بيلا سوان، ذات الأرواح الكثيرة، تناسخت وتجسّدت في بطلة فيلمنا التي تشترك معها في الاسم نفسه؟

"كائنات مسكينة" - المستند إلى رواية بالعنوان ذاته من العام 1992 للكاتب الاسكتلندي غراي ألازدير - قصة اكتشاف وانتقام، سردية نسوية رائعة عن النضوج، فيلم طريق وكوميديا غريبة عن الزواج من جديد، عملٌ مسلٍّ وزاخرٍ بالسخرية، ومطعّمٌٍ بعناصر خرافية وقوطية. المكونات النوعية لا تخفي الإرادة السياسية للفيلم. على العكس من ذلك، فمن الواضح (كما صرّح المخرج في المؤتمر الصحافي بعد العرض العالمي الأول) أن القصد هو إدانة المكانة الممنوحة (أو بالأحرى غير الممنوحة) للمرأة في العصر الفيكتوري، ولكن أيضاً، بشكل عام، في مجتمع القرنين العشرين والحادي والعشرين. تكتسب قسوة المخرج المعتادة هنا نغمة أكثر مرحاً، حيث تسود سخرية وسوداوية محبّبة، مستخدماً (لحسن الحظ) أداة الفكاهة التي لا تخيب. مفهومٌ أن مشكلة "كائنات مسكينة" (كما يحدث، بطريقة ما، مع كل الأفلام المذكورة في الفقرة الأولى) لا علاقة لها بما يُقال أو يُلمح إليه، بل بالحاجة إلى تأكيد الفيلم على ما يقوله، والمبالغة في التأكيد على خطابه.

لكن بعيداً من هذه الإفراطات أو المثالب، يمتدّ "كائنات مسكينة" لأكثر من ساعتين بخفّةٍ غير معتادة في أفلام لانثيموس. طاقم التمثيل، إيما ستون وويليام دافو ومارك روفالو ورامي يوسف وهانا شيغولا، ينسج معاً بعض لحظات الكوميديا العالية. يجب أن نشكر أيضاً الحركة النسوية لمساهمتها في فيلمٍ لطيف يبدو فيه مخرج "المفضّلة" وكأنه يحبّ بعض شخصياته/مخلوقاته، بل ويفاجئنا بشيء يشبه النهاية السعيدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها