السبت 2023/08/19

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

كول هيرك.. أو كيف بدأ الهيب هوب

السبت 2023/08/19
increase حجم الخط decrease
رغم أن مشهد الهيب هوب يهيمن عليه الرجال بشكل شبه حصري، إلا إن ثمة امرأة يجب تذكُّر اسمها إلى الأبد: سيندي كامبل. في 11 آب/أغسطس 1973، نظّمت الفتاة المراهقة حينها حفلة لجمع الأموال من أجل شراء ملابس جديدة وكتب مدرسية. المكان: قاعة المناسبات في بنايتها في برونكس، نيويورك، وتكفّل بالعزف وتسخين الأجواء شقيقها كليف، الذي سيُعرف من الآن فصاعداً باسم دي جي كول هيرك DJ Kool Herc. بدلاً من موسيقى الديسكو ذات النغمات المبهجة، لعب شيئاً من موسيقي الفانك واستعان ببعض نغمات الطبول واثنين من الأقراص الدوّارة (والكثير من الحساسية) وأمسك الميكروفون ليلهب حماسة الحضور ويُدخلهم في مزاج الرقص. من هنا وُلدت موسيقى الهيب الهوب.

بين العامين 2016 و2017  بثّت "نتفليكس" مسلسلاً موسيقياً بعنوان "النزول" The Get Down، تناول نشأة وأصول الهيب هوب. تدور أحداث المسلسل في السبعينيات في حي برونكس بمدينة نيويورك، ويتبع ظهور موسيقى الهيب هوب والديسكو من خلال عيون مجموعة من المراهقين السود. تبدأ كل حلقة من حلقات المسلسل مع زيكي (أو إم سي بوكس)، وهو مراهق طموح وفنان راب صاعد، يغنّي قصّته أمام حشد كبير خلال حفلة موسيقية في العام 1996. يمثل المفتتح القصير من غناء الراب الذي يؤدّيه البطل، ملخصّاً للحلقات السابقة وإعداداً للأحداث اللاحقة. وتتقاطع كل حلقة مع لقطات حقيقية ومقاطع إخبارية من السبعينيات.


(المنشور الدعائي للحفلة التي وُلد خلالها الهيب هوب)

في الحلقة الأخيرة من الموسم الثاني والأخير من المسلسل، والتي حملت عنوان "فقط من المنفى يمكننا العودة إلى الوطن"، يحاول البطل، زيكي، حشد الفاعلين والمؤثرين في الثقافة الحضرية الناشئة. يتفق مغني الراب وأصدقاؤه الخمسة على أن هذه هي الطريقة الوحيدة لمواجهة الرأسمالية من برونكس، قبل أن تدمّر العولمة حيَّهم. كان العام 1977، وكانت نيويورك نابضة ومتحرّرة ومليئة بالحيوية. التقى بقادة المشهد الصاعد، من منسّقي أغاني ومغني راب وفناني غرافيتي، سواء من أصول أفريقية أو بورتوريكية، وأخبرهم أن حركتهم الناشئة لا يمكنها البقاء والصمود إلا من خلال اتحادهم. ولهذا تحديداً اقترح عليهم إضافة الراقصين على إيقاعات ذلك اللون الموسيقي الناشز والمتمرّد الذي كان في طور التشكّل.

قرّروا التحدث إليهم جميعاً، كل في منطقته، وهكذا رُسمت الحدود وتوزّعت الأدوار، بالطريقة نفسها التي أدارت بها عصابات وتجار المخدرات أعمالها في ذلك الوقت.

في حضور مؤسسي الحركة، قال هيرك، وهو سليل أفريقي ملتحٍ يتميّز بقبعة واسعة الحواف ونظارات شمسية: "إن النزول ليس شيئاً تافهاً يُذاع في الراديو. إنه شكل من أشكال الفن الحيّ. إنه تغيير جذري في الثقافة". حين يتحدث عن "النزول"، فهو في الواقع يشير إلى موسيقى الهيب هوب. وقائل هذه الكلمات ليس سوى أحد عرَّابي الحركة. لم يُمنح كول هيرك دوراً أساسياً كـ"دي جي" في هذه القصة فحسب، بل تولّى أيضاً مسؤولية الميثاق التأسيسي.

فعلى عكس موسيقى الروك أند رول أو البانك أو التانغو أو أي شكل موسيقي آخر يتباهى بأصوله الحضرية، فإن موسيقى الهيب هوب تملك تاريخاً محدداً لقيامها ونشأتها. قبل 50 عاماً، يوم السبت 11 آب/أغسطس 1973، نُظّم أول حدث من هذا القبيل. لكن ما يمايزها عن غيرها من أشكال وتعابير الموسيقى الأخرى، أنه منذ نشأتها جرى تصميمها وتصوّرها كحركة ثقافية، وأسلوب حياة، وجمالية، وطريقة مختلفة للتفكير في المدينة، موطنها وموئلها الأساسي.


(دي جي توني تون إلى جانب دي جي كول هيرك)

ساعد كول هيرك (اسمه الأصلي كليف كامبل)، الدي جي ابن الـ18 عامًا، في تنظيم حفلة عيد ميلاد أخته الصغرى سيندي كامبل والترفيه عنها في ذلك اليوم (أو بالأحرى في تلك الليلة) حتى تتمكّن من شراء بعض الملابس الجديدة لعامها الدراسي المقبل. أرادت الفتاة اللحاق بالعروض المقدّمة من محلات الملابس في منطقة البوتيكات في شارع ديلانسي، أحد أهم شوارع الجانب الشرقي من مانهاتن. وبهذه الطريقة يمكنها أن تبدو أكثر حداثة من بقية زميلاتها في المدرسة، اللواتي اعتدن الذهاب إلى المحلات التجارية في شارع فوردهام، وهي منطقة تجارية تقع في برونكس، حيث تغلب على السكّان الأصول الأفريقية أو الإسبانية.

في ذلك الوقت، كانت سيندي تعمل في برنامج منحته مدينة نيويورك للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و21 عاماً لاكتساب الخبرة العملية. ووفقاً لحساباتها، فإن ما يزيد قليلاً عن نصف راتبها (45 دولاراً) يمكنه استئجار قاعة المناسبات في بنايتها الواقعة في 1520 شارع سيدجويك. كان مجمّعاً سكنياً مكوناً من 100 وحدة شُيّد في غرب برونكس.

لكن سيندي لم تروّج لحفلة عيد ميلادها على هذا النحو، وإنما كحفلة "عودة إلى المدرسة"، كما يقول التعبير الأميركي. أحضر والد كلايف وسيندي المشروبات، وصنعت والدتهما بعض الطعام. كُتب المنشور يدوياً في ورقة مقطوعة من دفتر ملاحظات، بقلم رصاصٍ وآخر ماركر، وكُتب أعلاها: "حفلة لـ دي جي كول هيرك"، وتحته في السطر التالي عنوان شارح: "حفلة عودة إلى المدرسة". بالإضافة إلى العنوان، أضاف المنشور أن موعد إقامة الحفلة سيكون من الساعة التاسعة مساءً حتى الساعة الرابعة صباحاً، كما أعلن عن سعر الدخول: 50 سنتاً للأولاد، و25 سنتاً للفتيات. لتلبية الهدف الأوّلي، كان الأخوان كامبل بحاجة لجمع 300 شخص. كليف، الذي أكسبه طوله وعضلاته لقب "هرقل"، كان يملك بالفعل بعض الخبرة في عزف الموسيقى في الحفلات الخاصة منذ سن 13 عاماً، خصوصاً أنه كان يمتلك مجموعة تسجيلات موسيقية جذّابة وكبيرة. ويرجع هذا بشكل خاص إلى أصوله.

كانت عائلة كامبل من كينغستون، عاصمة جامايكا، مهد موسيقى الريغي والسكا ska، بالإضافة إلى أنظمة الصوت (نوع من المراقص المتنقلة) والمحدّدات (أسلاف منسقّي الأغاني المعاصرين). وهكذا اكتشف كامبل تجارته ومهنته المستقبلية بشكل مباشر، من مصدرها. في طفولته، عندما كان يتسلّل خارجاً من البيت، كان عادةً ما يطالع في الشارع الاستعدادات للرقصات. يقول كول هيرك لجيف تشانغ في كتابه "جيل الهيب هوب": "وقفنا في الخارج، مثل أي شخص آخر، نشير إلى رجال العصابات أثناء مرورنا، جميع أفراد العصابات. يذهب الأولاد الوقحون (الاسم الذي عُرف به الراقصون على إيقاعات موسيقي السكا) على دراجات نارية، كل واحد منهم بسكينه الصغير فوقها". والجزء الآخر من تدريبه جاء من عائلته. كان والده كيث ميكانيكياً وعاشقًا للموسيقى. وإلى جانب تسجيلات الريغي (النوع الناشئ في جامايكا أواخر خمسينيات القرن الماضي)، جمَع تسجيلات نينا سيمون ونات كينغ كول ولويس أرمسترونغ وحتى موسيقى الريف country. وبعدما شهد استقلال جامايكا وزيارة من هيلا سيلاسي (آخر أباطرة إثيوپيا)، انتقلت عائلته إلى نيويورك في العام 1967.

وبمجرد أن استقروا في برونكس، اصطحبت والدته نيتي (وهي ممرضة) ابنها كليف إلى حفلات منزلية، تلك الحفلات الصغيرة المقامة في المنازل الخاصة حيث انتهى به الأمر في ما بعد إلى لعب الموسيقى وتسخين الأجواء. يتذكّر منسّق الموسيقى الرائد: "كانت سنّي صغيرة لا تزال، لكنّي كنت أدرس المشهد بالفعل. لاحظت أن العديد من الفتيات اشتكين لأن أحدهم قاطع هذه الأغنية، أو لأنه لم يقم بتشغيل تلك الأغنية أو لأن مشغّل الموسيقى لم تكن لديه أغنية معينة". منذ تلك اللحظة فصاعداً، بدأ شراء تسجيلات الفينيل ذات الـ45 دورة في الدقيقة بهدف إعداد نظام صوتي يخصّه. ومع ذلك، فإن أول اتصال له بثقافة الشارع في مدينة نيويورك (أو "التفاحة الكبيرة"كما يُشار إليها تاريخياً) كان من خلال الكتابة على الجدران، بعد انضمامه إلى مجموعة Ex Vandals. يتذكّر تلك الأيام في تدوينة نشرها العام 2021: "كنّا نختبئ في زوايا القطار وفي أيدينا أقلام الماركر. لم أستطع الابتعاد كثيراً لأن والدي كان منضبطاً للغاية. كنت أركب القطار مع أشخاصٍ يشيرون إلى كتاباتي ويتساءلون: "من الذي فعل ذلك؟".

بمحض الصدفة، أصبح والد كليف مديراً لفرقة "آر أند بي" R & B محلية، ولهذا استثمر الأموال في معدّات الصوت المخصّصة للعروض الحيّة. تولّى ابنه، الأكبر من بين ستة أشقاء، مهمة مهندس الصوت. في الوقت نفسه، قام بتوزيع الفقرات الموسيقية. لكن بعدما هدّد كليف بالعمل بمفرده، قرّر الوالد والابن تأسيس شراكة. بهذا النظام الصوتي، نظّمت سيندي كامبل حفلة "عودتها إلى المدرسة". في البداية، واجه الدي جي المراهق صعوبة في جذب انتباه الحضور. بدأ بأغنية راقصة تنتمي للـDancehall، تلك الموسيقى الشعبية الجامايكية التي نشأت في أواخر السبعينيات، لكنها لم تنجح في إصابة الهدف. في ذلك الوقت، كان الشتات الجامايكي في نيويورك مستهجناً ولم تكن ثقافتهم أفضل حالاً بدورها، لدرجة أن العصابات كانوا يلقون صناديق القمامة على المهاجرين من الدولة الكاريبية. مرّ وقت طويل قبل أن يصبح بوب مارلي فناناً معروفاً ويلقى التقدير داخل أميركا. أبقى كول هيرك عينه على ذلك. لدرجة أنه غيَّر لهجته وطريقته في فهم الموسيقى. وفي تلك الليلة أثبت نجاعته.

ثم بدأ الدي جي في تسخين حلبة الرقص بموسيقى فانك وسول. اقترب الجمهور، وامتلأت القاعة، وأخذ كول هيرك الميكروفون وحثّ الحضور على المشاركة. كان الدي جي المراهق قد وقع منذ فترة وجيزة أسير إعجابه باثنين من منسّقي موسيقى الروك،ما أتاح له الفرصة لجمع لائحة منتقاة، متناغمة للغاية وممثلة لما كان رائجاً في ذلك الوقت. أراد هيرك تحسين تجربة الجمهور في الاستماع إلى الموسيقى، بما يدفعهم لعيشها والاندماج معها. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى أن ما جال في مخيلة هيرك لا يتجاوز ما فعلته أغنية مثل "It's Just Begun" لفرقةThe Jimmy Castor Bunch (فانك إباحي بنغمات جاذبة)، أو أغنية "Frankenstein" لفرقة الروك The Edgar Winter Group (موسيقى روك أخدودية تتكرر إلى ما لانهاية). الأغنيتان من أوائل السبعينيات وشكّلتا ثورتين صغيرتين في نوعيهما، لكن في تلك الليلة وفي سبيل إدامة ذروة الأغنية التي يلعبها أو تطويل فترات سكونها، حصل الأبّ الروحي لموسيقى الهيب هوب على براءة اختراع تقنيات عديدة، من بينها البريك بيت breakbeat وأخذ العينات sampling. في تلك الليلة، وفي الوقت الحقيقي، كشف عنها. وحتى يومنا هذا، ما زال العديد من الأساليب الموسيقية لا غنى عنها، خصوصاً تلك المتحدرة من موسيقى الهيب هوب وموسيقى الرقص الإلكترونية.

ما يسمّى اليوم "بريك بيت" أو التكسير (تقنية تشغيل عيّنات الإيقاع نفسها على قرصين دائريين مختلفين، ما يسمح بتكرار أنماط الأسطوانة عن طريق تدوير إحدى الأسطوانات للخلف بينما تُشغّل الأخرى للأمام)، عمّده كول هيرك باعتباره تقنية "The Merry Go Round" (يمكن ترجمتها بـ"التقنية الدائرية"). لم يكن الأمر وكأنه عثر على هذه التقنية، بل درسها حتى طوَّرها. بعد ملاحظته لحماس الجمهور المستمع للجزء الآلي أو أجزاء معينة من بعض الأغاني، طبّق إحدى طرائق موسيقى الداب dub (الجانب المخدّر psychedelic من موسيقى الريغي). وعلى الرغم من أن هذا النوع الموسيقي ظهر أساساً لمطّ أغنية عن الفقر الذي ضرب المشهد الموسيقي للجزيرة بعد استقلالها، قرّر كول هيرك المضي قدماً واستخدامه لإبقاء الناس مندمجين في الرقص. لتوليد هذا التأثير المنوِّم أو تلك الحلقة اللانهائية لتشكيل القاعدة الإيقاعية لأغاني الهيب هوب، لعبَ الدي جي الأغنية نفسها على قرصين دوّارين، ثم ترك الاختيار على الجزء الموسيقي، ولعبه بشكل متكرر، بالتناوب بين تسجيلي الأغنية. عندما ينتهي من مقطع ما على أحد الأقراص، يكرّره على الآخر. هكذا وُلد "التكسير".

كان هيرك مشعوذ إيقاع حقيقي، لأنه حوَّل شيئاً نافلاً في الأغنيات إلى قاعدة تأسيسية لنوعٍ كامل، من مجرد خمس ثوانٍ في منتصف الأغنية إلى مسارٍ كامل يحمل أغنية بأكملها. في البداية، التفت إلى عيّنات موسيقى "الفانك" و"آر أند بي" و"السول" و"الروك" مثلما في أغنية "Give It Up Or Turn It a Loose" لجيمس براون؛ أو موسيقي البونجو روك، كما في أغنية "المكسيكي" لفرقة بيب روث، و"العقرب" لدينيس كوفي؛ أو الأغنية التي ألّفها جوني بات للموسيقى التصويرية لفيلم "شافت في أفريقيا" (1973). كشف هيرك نفسه في العام 2018 عن سبب اختياره لهذا النوع من الموسيقى لمجموعاته: "إذا كنت في روما، يجب أن أفعل ما يفعله الرومان. يجب أن أفهم الإيقاع الموجود هنا". وإذا كانت الحفلة عظيمة، فقد أثار حفيظة الجمهور أيضاً. "كنت آخذ الميكروفون وأخبرهم"، الآن أنا أتأرجح مع موسيقى الروك، أتشوّش مع أجهزة التشويش". بناءً على اقتراح والده، قام كول هيرك بإزالة التسمّية من على التسجيلات للحفاظ على مساهمته وسمعته. أدّى ذلك إلى ترك الأجزاء الموسيقية فقط من الأغاني قيد التشغيل. وقد جذب هذا انتباه الأولاد السود الراقصين ممن يُعرفون باسم "b-boys".

عندما انتهت حفلة "العودة للمدرسة"، وبينما كانا الشقيقان كليف وسيندي يحسبان الأموال التي جمعاها، لم يكن بمقدورهما ترجمة الأمور تماماً، لكنهما أدركا أنهما صنعا التاريخ لتوّهما. في اليوم التالي انتشر نجاح الحدث عبر الحيّ، كالنار في الهشيم. وشجّع ذلك الشقيقين على الاستمرار في تنظيمه في القاعة نفسها، والذي تزامن مع تراجع نشاط الحفلات المنزلية في برونكس. كان ما زال عليهما انتظار والدهما للذهاب في رحلة ليتمكّنا من القيام بها. نما الشكل الموسيقي الذي اخترعه كليف وسيندي كامبل بطريقة، مثل فواصل كول هيرك، حيث بدآ في تنفيذه على أساس متجوّل، في مواقع مختلفة. وكان الفريق ينمو. في هذه المرحلة، سيأخذ مغني الراب "كوك لا روك" الميكروفون ويبدأ في التقفية على إيقاع الموسيقى. وبالرغم من سيطرة العنف على نيويورك آنذاك، إلا أن خصوم الأخوين استلهموا أفكارهما وأعادوا إحياء الحفلات الجماعية وحفلات الشوارع والأحداث الضخمة التي انتشرت في نيويورك خلال الحرب العالمية الأولى.

كانت "حفلة المجمّع السكني" هذه تقديماً مثالياً لموسيقى الهيب هوب. حتى ذلك الحين، لم تكن تلك الثقافة موجودة ولا المصطلح. جاء ذلك لاحقاً، وعادة ما يذهب الفضل إلى مغني الراب كيف كاوبوي، وهو عضو في فرقة Grandmaster Flash and the Furious Five. تقول الأسطورة، لأنه لم يعد بالإمكان التحقّق منها (توفي عن عمر يناهز 28 عاماً، في العام 1989)، أن التسمية تحاكي إيقاع القوات المسلحة الأميركية عند السير. جاء إليه بعد أن جنّد أحد الأصدقاء. قبل ولادة هذه الثورة الثقافية بأكملها، لم يكن هناك سوى الظلام، وبعض الخلفية. على الرغم من وجود أولئك الذين يٌرجعون أصول وزمن ما قبل التاريخ لهذه الحركة، إلى المبارزات الشعرية بين شعراء العصر الجاهلي في الجزيرة العربية، مثلما يُرجعها آخرون إلى الشعراء والموسيقيين ورواة القصص الجوّالين في غرب إفريقيا (حرّاس الثقافة في قبائل تلك المنطقة، قبل استعباد هذه الشعوب)؛ إلا أن الأصول المباشرة لموسيقى الهيب هوب وروافدها كما نعرفها اليوم تكمن في نشأة وصعود حركة "القوة السوداء".

بين الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، قام فنانون أميركيون متحدرون من أصل أفريقي مثل "الشعراء الأخيرون" وغيل سكوت هارون، بإنشاد أغانيهم على نمط أغنيات موسيقى التروفا الكوبية الشعبية. تزامن هذا مع إحياء فنّ "الكلمة المنطوقة" وإلقاء وكتابة الشعر المصبوغ بثقافة الجازّ التي ظهرت في هارلم في عشرينيات القرن العشرين. قالبٌ سيتحرّر لاحقاً من قِبل "جيل بيت" Beat Generation، ويخلّده سكوت هارون في تحفته "الثورة لن تكون متلفزة"، ويحتفي به باتي سميث ومشهد البانك النيويوركي، ويعيد ابتكاره تاتو لافيرا والشتات البورتوريكي في مدينة نيويورك. ما وُلد باعتباره تسجيلاً غنائياً متمرّداً وتأريخاً شوارعياً (يُقدر أنه تطوَّر إلى مائة نوع فرعي)، حظي باهتمام الأنماط الأخرى التي ولدت في الضواحي، مما أدّى إلى خلق أحد أقوى التمثيلات الفنية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. جاء التعميد في التسعينيات. منذ ذلك العقد، أصبح الهيب هوب رمزاً للتمرُّد والإنصاف والاعتراف، ولكنه أصبح أيضاً مرادفاً للعنف.

كان كول هيرك أساسياً في جمع أجزائه، هو المولود في مهد فنّاني الدي جي، والمتمرّس في شوارع مدينة كبيرة مفتوحة لفناني الغرافيتي. فهمَ الأيقونة الموسيقية أنه بحاجة إلى راقصين حتى تكوّن هذه العناصر الأربعة ثقافة جامعة (حاليًا تتكون من تسعة عناصر). في الوقت نفسه، لجأت موسيقى الديسكو (صيف 1973 يعتبر العام صفر لموسيقى الرقص) إلى الملاهي الليلية مثل The Loft وTenth Floor وThe Gallery، لشفط وتفريغ إحباط ويأس أكثر من 100 ألف من سكّان نيويورك في ليالي السبت المطبوعة بالانهيار الاقتصادي لتلك الأوقات (زمن حرب أكتوبر ووقف تصدير الدول العربية للبترول). في المدينة المحبطة، نزل الأبّ الروحي للهيب هوب إلى الشوارع بعاصفته الموسيقية. يوضّح في مقابلة حديثة: "رقص الناس، لكن لم يُطلق عليهم اسم بي بويز b-boys أو بي-غيرلز. بدأتُ مناداتهم بذلك. اعتاد الرجال على رقص البريك دانس. في ذلك الوقت، كانت اللغة العامية حاضرة في الأسلوب وقمنا بتقصير الكلمات".



قام كول هيرك وزملاؤه بتقسيم برونكس، أثناء ترفيهه عن ساكنيها، وابتكاره فنّاً وتعليماً، ليصبح مدرسة لهذا الجيل المؤثّر الذي كان من بين أعلامه غراند ماستر المذكور أعلاه، وأفريكا بامباتا، ودي جي توني تون. لكن بالرغم من مساهمات كول هيرك في موسيقى وثقافة الهيب هوب، وعلى عكس معاصريه الذين واصلوا بحماس تطوير إنجازاته؛ فهو غير معروف نسبيًا اليوم ولم يحقق نجاحاً تجارياً نظراً لأنه لم يفكر في تسجيل أعماله.

في العام 1977 عاد هيرك إلى النادي. في إحدى حفلاته، تعرّض للطعن أثناء فضّه شجاراً، ما تسبب في بدء انحسار نجمه. في السنوات التالية، عانى من إدمان المخدرات. هذا، إلى جانب وفاة والده في الثمانينيات، ما دفعه إلى الإنزواء واللجوء إلى الصمت. توقّف عن كونه شخصية بارزة كدي جي، لذلك كانت ظهوراته متقطعة. في العام 1997، دعته فرقة كيكيمال برازرز للمشاركة بصوته في أغنيتها "Elektrobanks". في أوائل العام 2010، أصيب بمرضٍ خطير، وبسبب نقص التأمين الصحي، لم يستطع تأمين سوى كلفة عمليتين لإنقاذ حياته. أصدر أيضاً أول ألبوماته الموسيقية بالإشتراك مع زميله مستر جرين في العام 2019، ومما لا يثير الدهشة، جاءت الموسيقى وفية تماماً لتقاليد "المدرسة القديمة".

اليوم، يكرّس كول هيرك جهوده للحفاظ على تراث موسيقى الهيب هوب، جنباً إلى جانب شقيقته سيندي، التي نظمّت الحفلة في ذلك الوقت. على سبيل المثال، عملَ على ضمان عدم بيع منزله السابق الواقع في 1520 شارع سيدجويك، حيث أقيمت الحفلة، للمستثمرين، وتم الاعتراف به رسمياً من قبل مدينة نيويورك باعتباره "مسقط رأس موسيقى الهيب هوب". الآن، يلقي محاضرات حول بدايات هذا النوع وإنقاذ حيّه النيويوركي من تغيير ملامحه وطمس هويته تحت مسمّى "التطوير العمراني"، الأمر ذاته الذي بدأ منه كل شيء قبل 50 عاماً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها