الخميس 2023/08/10

آخر تحديث: 16:51 (بيروت)

كوع الكحالة... أخبار الخبر وميتافيزيقيا المكان والحرب

الخميس 2023/08/10
كوع الكحالة... أخبار الخبر وميتافيزيقيا المكان والحرب
صور فادي بجاني تملأ الكحالة بعد مقتله خلال الاشتباكات إثر انقلاب شاحنة "حزب الله" (المدن)
increase حجم الخط decrease
مع وقوع شاحنة عند كوع الكحالة، البلدة المسيحية الجبلية، وقيل إنها محمّلة بالسلاح والعتاد(الله أعلم) وتابعة لـ"حزب الله"، سريعاً ما عاد شريط الذاكرة إلى زمن الحرب وما وراء الحدث. فثمة محطّات آثمة وقاتمة ودموية حصلت في هذا المكان، وهو من الأمكنة التي بات لها بُعد أشبه بالميثولوجي في الوجدان الجمعي، تماماً كما عين الرمانة وحاجز المدفون ومعبر المتحف وخط التماس بين الشرقية والغربية وسوق الغرب وحرب الفنادق وساحة الشهداء...

وقيل مراراً في حوارات بعض السياسيين، أن السوريين والمجتمع الدولي أوقفوا جموح "الحركة الوطنية" و"القوات المشتركة"، منعاً لسقوط كوع الكحالة وبالتالي تجاوز الخطوط الحُمر. في المقابل، تعتبر أحزاب "الجبهة اللبنانية" أنّ "بطولاتها" أوقفت تقدّم أحزاب الحركة الوطنية المدعومة من المقاتلين الفلسطينيين. وتُنقل هذه الروايات عادة للإشارة إلى "لعبة الأمم" في الحرب اللبنانية، وحدود صراعات جهابذة الحرب ومصائر كل فريق منهم ودوره المرسوم... وغالباً، يستعيد كثر مرويات كوع الكحالة، في سبيل التوظيف السياسي وشد العصب الجمعي، وليس كدرس من دروس الحرب القاتلة.  

ومن خلال تعريف كوع الكحالة في مواقع الانترنت أو الصحف، نعرف تركيبة هذا البلد المعقّدة والشائكة والقاسية والتشاؤمية، بل نعرف أخبار الخبر وطبيعة هذا البلد الداخلية والخارجية، وطبيعة التجاور السكاني والمسالك والمعابر في الحياة السياسية اللبنانية. والمكان نفسه يعطينا من خلال الوقائع، درساً في ما آل إليه تدفق السلاح غير الشرعي إلى لبنان، وانبثاق جماعات ايديولوجية وطائفية ومذهبية يغلب على طابعها السياسي التنافر والتنازع...

نقرأ في موقع يسمى "أمواج": "إن كوع الكحالة الذي يُعتبر مكمنًا طبيعيَّا للشاحنات منذ افتتاح طريق بيروت-دمشق، حيث مئات الشاحنات والسيارات التي تنقلب على هذا الكوع بسبب طبيعة الكوع الخطر، لطالما حوله البعض من الموتورين في المنطقة إلى كمين مُحكم لكل من يخالفهم الرأي. ففي حال انقلبت سيارة أو شاحنة، أو خلال مرور موكب أو جنازة أو حتى عرس لا يعجبهم من فيه من عابرين، يلجأ هؤلاء إلى استغلال طبيعة "المكمن" ويصطادون المارين، كما حصل في العام 1970 لدى مرور موكب أحد شهداء المقاومة الفلسطينية"...

ونقرأ في موقع "القوات اللبنانية": "يرتبط تاريخ الكحالة الحديث بالمقاومة والنضال، فمنذ العام 1958، كانت الكحالة خط الدفاع الأول عن لبنان في وجه مشاريع العروبيين وعبدالناصر، وبوجه المشروع الفلسطيني المدعوم من بعض اللبنانيين منذ العام 1969، وغدا كوع الكحالة الشهير رأس حربة في الدفاع عن لبنانية وحرية لبنان، ودفعت (البلدة) في سبيل ذلك 62 شهيداً من خيرة شبابها ما بين العام 1975 والعام 1990.  
29 آذار 1976، تاريخ كتب بدم مقاومين وشهداء سقطوا دفاعاً عن منطقة الكحالة التي كانت تشكل في تلك الأيام خطّ الدفاع الأساسي للمناطق الحرة"... 

وكتبت مجلة "الشراع" أن كوع الكحالة "من أشهر طرق لبنان، على الطريق بين بيروت والبقاع، هو كوع شهير لكثرة ما تدهورت عنده شاحنات لبنانية وسورية وأردنية وعراقية تحمل بضائع او تنقلها. أياً كانوا سائقيها... غير أن شهرة الكوع الأساسية، مستمدة من الحوادث التي كان خلالها شباب حزبَي الكتائب-الأحرار (شمعون) يتعرضون للسيارات الخارجة من بيروت تحمل شباباً وفتيات ومتوجهة الى دمشق، لتحية جمال عبد الناصر، بطل الجمهورية العربية المتحدة، أثناء وجوده في دمشق للاحتفال بعيد الوحدة المصرية السورية".

ولا تتسم وقائع ومرويات كوع الكحالة على سمت واحد ومغزى واحد. فهي متقلّبة بتقلب الأحوال والسياسات والعواطف والمواكب... في أبريل/نيسان 1968، أثناء مجابهة عسكرية بين الفدائيين والجيش الإسرائيلي، قتل في غور الأردن اللبناني العروبي خليل الجمل، الذي كان منتظماً في إحدى المنظمات الفلسطينية. وخلال نقله من الأردن إلى بيروت لتشييعه، مرّ موكبه في طريق الشام، وكان له استقبال في الكحالة نفسها كما في عدد من البلدات والقرى التي مرّ بها الموكب. وأصدرت الأحزاب المسيحية (الكتائب، الأحرار، الكتلة الوطنية) قبل 34 ساعة من مرور الموكب، بيانات دعت فيها محازبيها وجمهورها إلى "استقبال جثمان الفدائي وحمله على الأكتاف لدى وصوله إلى كل قرية وبلدة يمر فيها، ونثر العطور على نعشه وقرع أجراس الكنائس تقديرا لبطولة الفتى الشهيد".

ويقول الرئيس الراحل شفيق الوزان في شهادته: "كنت رئيساً لجمعية متخرجي المقاصد وقد كلفتُ يومها بالتوجه لاستقبال جثمان البطل، وعند وصولي الى بلدة الكحالة فوجئت بشبابها عند كوعها الشهير يقطعون الطريق على السيارة والموكب، فصُعقت أول الأمر وراح خيالي إلى أيام الوحدة وما كان يتعرض له أبناء بيروت عند هذا الكوع السياسي الحزبي... لكن المفاجأة كانت في أن شباب الكحالة الكتائبيين والشمعونيين والمستقلين اندفعوا لحمل نعش الشاب الجمل وراحوا يرفعونه على الكفوف ويدورون له تقليداً تكريمياً للفقيد الشاب".

وأهل بلدة الكحالة - حسب تغطية الصحف - "أبوا إلا أن يظهروا عاطفتهم، فتقدّم نفر منهم لرفع النعش على أكفّهم، فمنعهم من ذلك رجال العاصفة الملثمين"، أي الفدائيون المرافقون.

لكن ذلك الجموح العاطفي المسيحي سرعان ما بدأ يتبدّل بعد سنة ونيف، مع بدء الاعمال العسكرية الفلسطينية انطلاقاً من جنوب لبنان... ينقل الصحافي نجم الهاشم في جريدة "نداء الوطن": "في 25 آذار 1970 قتل الفلسطيني سعيد غوّاش من مخيم تل الزعتر خلال اشتباك مع مسلحين آخرين من آل ستيتية، قيل أنهم كانوا يشكّلون عصابة للإتجار بالمخدرات وكان القتيل ضابطاً في الكفاح المسلح الفلسطيني. كان ذلك بعد أربعة أشهر من توقيع اتفاقية القاهرة التي سمحت بانتهاك سيادة الدولة اللبنانية وشرّعت العمل الفلسطيني المسلح وحوّلت المخيّمات من مخيّمات للّاجئين إلى مخيّمات مسلّحة. جرت محاولة لنقل الغواش عبر مطار بيروت إلى الأردن، لكن العملية لم تتم بسبب عدم توافر طائرة في الوقت المناسب. لذلك تقرّر نقله برّاً إلى دمشق في موكب مسلح. خلال مرور الموكب في الكحالة، أطلق مسلحون النار في الهواء وحصل احتكاك مع عدد من الأهالي الذين أصيب عدد منهم، لكنّ الموكب مرّ وأكمل طريقه. جرت محاولات لمنع الموكب المسلّح العائد من سوريا من المرور في الكحالة، لكن المحاولة فشلت. خلال عبوره حصل الإشتباك الذي أدى إلى سقوط عدد من القتلى قبل أن يتمدّد ليشمل أحياء في بلدة الدكوانة، والمكلِّس القريبة من مخيم تلّ الزعتر، وفي حارة حريك القريبة من مخيم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت. على أثر هذا الحادث، تم خطف الشيخ بشير الجميل على أحد الحواجز الفلسطينية واحتجازه في تلّ الزعتر، بعد اتّهامه بأنّه كان في الكحّالة يوم الحادث مشاركاً في إطلاق النار، قبل أن تحصل تدخّلات أدّت إلى إطلاقه لعب دوراً فيها وزير الداخلية كمال جنبلاط".

في رواية مختلفة عن رواية الهاشم، ينقل القيادي الفلسطيني الراحل، شفيق الحوت في كتابه "بين الوطن والمنفى"(دار الريس)" أنّ احدى العصابات اللبنانية نشطت في ترويج المخدرات، وكان أفرادها يستعملون زي الفدائيين للتمويه. وفي إحدى المرات تصدى لهذه العصابة جهاز الكفاح المسلح (أي الشرطة العسكرية) ووقع بينهما اشتباك مسلح قتل خلاله النقيب الفلسطيني سعيد غوّاش. وفي اليوم التالي (26/3/1970) تحركت مجموعة فدائية غير مسلحة من 14 شخصاً من بيروت الى دمشق لترافق جثمان الشهيد الى دمشق حيث تقيم عائلته. وعند كوع الكحالة المشهور، انهمر الرصاص على الموكب من السطوح ومن برج الكنيسة، فقتل الفدائيون جميعهم. وفي تلك الأثناء، كان الصحافي جورج فرشخ، ماراً بالصدفة بتلك المنطقة في طريقه الى زحلة، فصوّر الحادثة. وعند تحميض الفيلم ظهر بشير الجميل وهو يطلق النار من برج الكنيسة. وبعد بضعة أيام أوقف الفدائيون بشير الجميل عند أحد حواجزهم بعدما عثروا في صندوق سيارته على بعض القبعات الحمر وهي ملطخة بالدم وبقايا الأدمغة، وهذه القبعات هي ما كان يعتمرها أفراد الكفاح المسلح. ومع ذلك، ونتيجة لرغبة كمال جنبلاط، وحتى لا تتطور الأمور الى أبعد من ذلك، أطلق سراح بشير الجميل من غير أن يحاكم (ص166ـ167)...

مع وقوع شاحنة "حزب الله" عند كوع الكحالة، بتنا أمام مروية جديدة، تضاف الى مرويات المكان الشهير. هي في خيوطها ودلالاتها، مرآة لواقع السياسة اليوم، مرآة لنظام متعدّد الرؤوس، ولدولة مترهلة وخانعة غير موجودة، ولعصبيات جامحة ملتهبة، ولأحزاب تحاول استغباء جمهورها وناسها... بالتأكيد، رغم المخاطر التي نتجت عن وقوع الشاحنة، سنشهد طي الصفحة، كما طويت كل الصفحات الخطرة منذ نهاية الحرب...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها