على هذا الأساس، يمكن فهم العديد من الأعمال الحاضرة في المعرض من حيث عكسها لعناصر من المحيط الموضوعي، وعبر مقاربة تشكيلية شديدة الإلتصاق بالواقع، لدرجة تمكننا من نسب بعض تلك الأعمال إلى ضرب من الواقعية المفرطة. هذه الحركة الفنية، التي كان ريتشارد إستس، وشوك كلوز، وبن أرونسون، على سبيل المثال، من أبرز ممثليها، لقيت رواجاً في الولايات المتحدة أكثر من سواها. ظن البعض أن هذا التيّار، الذي تفرّعت أساليبه بحسب البلد والظروف، هو عبارة عن حركة "رجعية"، قامت كردّ فعل على التجريد والعقلنة في التصوير.
لكن -وهذا الحكم ينطبق على أعمال خُضري- يمكن القول إن هذا النهج، خلافاً للواقعية الإشتراكية وهواجسها النقدية، يواجه الواقع بعقلية المراقب المدرك لكل الجزئيات والتفاصيل. لقد أرادت الفنانة، في أعمالها المعلّقة على جدران الغاليري، التعبير عن التوتر الناتج من الإختيار الواعي للمظاهر الواقعية، عبر اعتماد أدوات تشكيلية هي من الوضوح والصفاء بقدر ما هي معبّرة وذات دلالة.
أما زاوية "الرؤيا" الثانية، فتتعلّق بالمفهوم والظرف، وفي شكل أساسي بالمكان. لن نجد صعوبة في إدراك أن الحديث يدور على بيروت: مدينة الأسرار والخفايا والتناقضات، التي إذا أمكن رؤيتها من فوق، فلا بد، أيضاً، من رؤيتها من تحت. وللمناسبة لا بد من ذكر أنها ليست المرة الأولى التي تتناول فيها الفنانة المدينة كتيمة تشكيلية مفضّلة، إذ سبق أن عرضت في الغاليري نفسها، العام 2018، سلسلة أعمال تحت عنوان "هندسات بيروتية"، وقد ضمّنتها، حينذاك، أشكالاً زخرفية اشتُق بعضها من محيط الفن الإسلامي المليء بالزخرفات الهندسية التجريدية. أما في ما يتعلّق بطبيعة الأعمال الحاضرة، فهي بعيدة من الزخرفة ومن التجريد (سوى في بعض الأمكنة القليلة) وشديدة القرب من الموضوع المرئي. كما أنها، في الوقت نفسه، تمتزج بألوان الخيال، مما يولّد انطباعاً بواقعية ذات ملامح سحرية. لقد استخدمت خُضري عناصر مرئية، ببعض اللامبالاة أحياناً، وكأنها أرادت التعبير عن عملية الإدراك البصري في بعض ما يمكن أن تسجّله العين البشرية، إستناداً لما قد تقدّمه لنا الصورة الفوتوغرافية.
بيد أن الصورة الفوتوغرافية هي وسيلة من وسائل الإتصال التي نثق فيها ثقة مطلقة، وبسذاجة في بعض الأحيان. علماً أن هذه الثقة قد بدأت تتزعزع في الوقت الحاضر، نظراً لطغيان تقنيات التحسين والتغيير والخداع في الصورة، التي صارت متّبعة على نطاق واسع. لكن واقعية الفنانة تختلف عن مظاهر الصورة الفوتوغرافية ومعطياتها، إذ هي تسعى إلى تخطّي ما يربط الإنسان بالطبيعة من إحاسيس مباشرة، معلنة أنه لا بد من الدخول إلى هذه الطبيعة نفسها للتعرّف إلى ما فيها من جزئيات، وما لها من دلالات ما يجعلها كلاً قائماً في ذاته. غير أن استخدام الوسيلة الوصفية في اللوحات المائلة أمامنا (وهي المعضلة المتصّلة ببعض نتاج الواقعية المفرطة) لا ينفي دور الفنان الذاتي، بل إن هذا الدور حاضر بشدّة في أعمال خُضري، ما يجعل عملها على التصاق واضح بالصانع، وبطبيعة ما ينتجه.
وكأننا هنا، ومن قبيل التوارد الذهني، في صدد استحضار بعض أعمال الفنان الأميركي ريتشارد إستس، حين يصوّر واجهة أحد الأبنية القديمة من القرن التاسع عشر. واجهة لا قيمة لها بالنسبة إلى التخطيط المديني الحديث، لكنه شاء من خلالها التأكيد على أهميتها كشاهد على "الوعي التاريخي". هذا الوعي التاريخي حاضر لدى الفنانة. ومدينة بيروت، كما تراها ديالا خُضري، هي عبارة عن أبنية نخشى أن نفتقدها في يوم من الأيام، وسنضطر ساعتها إلى إعادة تقييم الشعور بالإغتراب، من حيث هو ظاهرة إنسانية يبدو أنها بدأت بالتسلل تدريجاً إلى نفوسنا.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها