الجمعة 2023/07/07

آخر تحديث: 14:55 (بيروت)

"الغُراب والنظرة" لديالا خُضري... أطياف الواقعية المفرطة

الجمعة 2023/07/07
increase حجم الخط decrease
حين قرأنا عنوان معرض ديالا خضري، المقام لدى غاليري “Art on 56”، خُيّل إلينا، للوهلة الأولى، أن الموضوع يدور حول إحدى حكايات الكاتب الفرنسي جان دو لافونتين الخرافية، التي كنا مررنا عليها في المدرسة، كقصص خرافية أبطالها حيوانات (وهو أمر معروف عن الكاتب ومؤلفاته)، وتخفي مجرياتها حكمة أو عظة، ومنها حكاية "الغراب والثعلب". لكننا عدنا وتنبّهنا إلى أن العنوان، الوارد باللغة الفرنسية، جرى إستبدال حرف من حروف تسميته الأصلية، بحيث أصبح Le corbeau et le regard  أي ما معناه "الغُراب والنظرة"، إذ حلّت كلمة النظرة هنا محل كلمة الثعلب، الحيوان المحتال والمحنّك.

وكأن هذا التحوير يسلك مسارين في لوحة الفنانة، على ما نعتقد: زاوية الرؤية في المقام الأول، التي يمكن تسميتها "غرابية"، أو بالأحرى كما تسمّى بالفرنسية Vol d’oiseau ، أي ما يمكن أن يراه العصفور الطائر من مستواه المرتفع، وهي الرؤية التي يمكننا، بدورنا، رصد مؤثراتها في حال وجودنا في نقطة أعلى من خط النظر الطبيعي، والإطلاع عليها عن كثب، وخصوصاً في ظل غياب العنصر البشري "المزعج" لصفاء الرؤية، كما هي الحال في أعمال الفنانة.
 
 على أن مسألة "النظرة" - regard، بحسب ترجمتنا الواردة في العنوان، والتي تنطبق على زاوية الرؤية الفوقية، ليست هي المقصودة تماماً، بالرغم من حضورها (الرؤية من فوق) في بناء العمل التشكيلي. فالمقصود هنا، تحديداً، هو "الريغار"، أي تلك الحفرة غير المرئية الموجودة تحت الإسفلت في الطرقات، لكونها مغطاة بغطاء معدني، مستدير غالباً، ومربع في بعض الأحيان، ويتمثل دوره، إضافة إلى الناحية الوظيفية كفتحة تؤدي إلى نفق – مجرى صغير، في منع السقوط في الحفرة (وكم من سيارة سقطت عجلتها في ريغار ببلادنا في ظل غياب الغطاء لسبب ما). لقد رسمت الفنانة هذه الريغارات بحسب أسلوب شديد الواقعية سنأتي على تفصيله لاحقاً، وأضافت إليها عناصر طارئة أخرى كورقة شجر يابسة، أو عقب سيجارة. وقد نسأل أنفسنا، حيال هذا العنصر الهندسي – التشكيلي، إذا ما كان عبارة عن مدخل أو مخرج لعالم سفلي مواز (بيروتس في رواية ربيع جابر)، وليس مجرّد مجرى لمياه أو نفق لشبكات الإتصال وسواها. 

على هذا الأساس، يمكن فهم العديد من الأعمال الحاضرة في المعرض من حيث عكسها لعناصر من المحيط الموضوعي، وعبر مقاربة تشكيلية شديدة الإلتصاق بالواقع، لدرجة تمكننا من نسب بعض تلك الأعمال إلى ضرب من الواقعية المفرطة. هذه الحركة الفنية، التي كان ريتشارد إستس، وشوك كلوز، وبن أرونسون، على سبيل المثال، من أبرز ممثليها، لقيت رواجاً في الولايات المتحدة أكثر من سواها. ظن البعض أن هذا التيّار، الذي تفرّعت أساليبه بحسب البلد والظروف، هو عبارة عن حركة "رجعية"، قامت كردّ فعل على التجريد والعقلنة في التصوير.

لكن -وهذا الحكم ينطبق على أعمال خُضري- يمكن القول إن هذا النهج، خلافاً للواقعية الإشتراكية وهواجسها النقدية، يواجه الواقع بعقلية المراقب المدرك لكل الجزئيات والتفاصيل. لقد أرادت الفنانة، في أعمالها المعلّقة على جدران الغاليري، التعبير عن التوتر الناتج من الإختيار الواعي للمظاهر الواقعية، عبر اعتماد أدوات تشكيلية هي من الوضوح والصفاء بقدر ما هي معبّرة وذات دلالة.

أما زاوية "الرؤيا" الثانية، فتتعلّق بالمفهوم والظرف، وفي شكل أساسي بالمكان. لن نجد صعوبة في إدراك أن الحديث يدور على بيروت: مدينة الأسرار والخفايا والتناقضات، التي إذا أمكن رؤيتها من فوق، فلا بد، أيضاً، من رؤيتها من تحت. وللمناسبة لا بد من ذكر أنها ليست المرة الأولى التي تتناول فيها الفنانة المدينة كتيمة تشكيلية مفضّلة، إذ سبق أن عرضت في الغاليري نفسها، العام 2018، سلسلة أعمال تحت عنوان "هندسات بيروتية"، وقد ضمّنتها، حينذاك، أشكالاً زخرفية اشتُق بعضها من محيط الفن الإسلامي المليء بالزخرفات الهندسية التجريدية. أما في ما يتعلّق بطبيعة الأعمال الحاضرة، فهي بعيدة من الزخرفة ومن التجريد (سوى في بعض الأمكنة القليلة) وشديدة القرب من الموضوع المرئي. كما أنها، في الوقت نفسه، تمتزج بألوان الخيال، مما يولّد انطباعاً بواقعية ذات ملامح سحرية. لقد استخدمت خُضري عناصر مرئية، ببعض اللامبالاة أحياناً، وكأنها أرادت التعبير عن عملية الإدراك البصري في بعض ما يمكن أن تسجّله العين البشرية، إستناداً لما قد تقدّمه لنا الصورة الفوتوغرافية.



بيد أن الصورة الفوتوغرافية هي وسيلة من وسائل الإتصال التي نثق فيها ثقة مطلقة، وبسذاجة في بعض الأحيان. علماً أن هذه الثقة قد بدأت تتزعزع في الوقت الحاضر، نظراً لطغيان تقنيات التحسين والتغيير والخداع في الصورة، التي صارت متّبعة على نطاق واسع. لكن واقعية الفنانة تختلف عن مظاهر الصورة الفوتوغرافية ومعطياتها، إذ هي تسعى إلى تخطّي ما يربط الإنسان بالطبيعة من إحاسيس مباشرة، معلنة أنه لا بد من الدخول إلى هذه الطبيعة نفسها للتعرّف إلى ما فيها من جزئيات، وما لها من دلالات ما يجعلها كلاً قائماً في ذاته. غير أن استخدام الوسيلة الوصفية في اللوحات المائلة أمامنا (وهي المعضلة المتصّلة ببعض نتاج الواقعية المفرطة) لا ينفي دور الفنان الذاتي، بل إن هذا الدور حاضر بشدّة في أعمال خُضري، ما يجعل عملها على التصاق واضح بالصانع، وبطبيعة ما ينتجه.

وكأننا هنا، ومن قبيل التوارد الذهني، في صدد استحضار بعض أعمال الفنان الأميركي ريتشارد إستس، حين يصوّر واجهة أحد الأبنية القديمة من القرن التاسع عشر. واجهة لا قيمة لها بالنسبة إلى التخطيط المديني الحديث، لكنه شاء من خلالها التأكيد على أهميتها كشاهد على "الوعي التاريخي". هذا الوعي التاريخي حاضر لدى الفنانة. ومدينة بيروت، كما تراها ديالا خُضري، هي عبارة عن أبنية نخشى أن نفتقدها في يوم من الأيام، وسنضطر ساعتها إلى إعادة تقييم الشعور بالإغتراب، من حيث هو ظاهرة إنسانية يبدو أنها بدأت بالتسلل تدريجاً إلى نفوسنا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها