الجمعة 2023/06/30

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

حليم بركات وبيروت التي لم تعدْ ملوّنة

الجمعة 2023/06/30
حليم بركات وبيروت التي لم تعدْ ملوّنة
كانت بيروت فضاءً لبروز الأهواء والتيارات والثقافات
increase حجم الخط decrease
في كتابه "المدينة الملونة"(منشورات دار الساقي) يقول الروائي وعالم الاجتماع الراحل، حليم بركات: "عرفت جيداً أن بيروت ليست المدينة التي تنام باكراً مع العصافير، وأن ليلها أجمل ما تعد به سكانها وعشاقها في مختلف الفصول. غير أني نسيتُ، وأنا أتجوّل وسط دمار ساحة البرج، ما حفظتُ من تبجيل لبيروت حين استرجعنا تفاصيل حياتنا فيها... وحين واجهت الدمار العبثي إثر الحرب الأهلية الثانية، انهارت داخل نفسي الأساطير التي حيكت حول لبنان فاقتنعت بأنه كان يقوم على أسس واهية لم تصمد عندما عصفت به، وببيروت، رياح الأزمات العاتية"... و"ها قد مضى ربع قرن وما زالت آثار الحرب المجنونة تلك تتفاعل فتعيش مع ناس وأزمة وذاكرة هذا الوطن وهذه المدينة المنذورة لتعيد بعثها بعد كل حرب، وبعد كل موت"...

لم يكن بركات مخطئاً في توصيف ما آلت إليه بيروت، وهي التي عاشت مرحلة "ملوّنة"، سريعاً ما فُقدتْ أنهارتْ أو تفككتْ خلال الحرب، ومن خلال سيرة حليم بركات أو تجربته، يمكن أن نستخلص بعض الجوانب عن فضاء بيروت وعوالمها. فوالدته الأرملة وابنة بلدة الكفرون الطرطوسية الساحلية السورية، قصدتْ، في زمن الفقر والعوز، أن تعيش في بيروت، ومنطقة رأس بيروت تحديداً، لتعمل أولاً وتعلّم أبناءها، على ما روى حليم بركات، باعتبار أن العلم ينقذهم، أي أولادها، من براثن اليتم ومشقاته... كانت منطقة رأس بيروت موئل الجامعة الأميركية، ومقصداً لعوائل ثرية وشخصيات سورية وفلسطينية وعراقية وعربية وأجنبية، ومن أطياف مختلفة ومتنوعة، زاد تنوعها بعد ازدهار شارع الحمرا بالمقاهي والمؤسسات السياسية والثقافية والسينمائية والاجتماعية، لكن علامات الوهن والخواء تبدو عليها اليوم، ولم يتبقّ من ماضيها الغابر سوى الطلل والذكريات والنوستالجيا الثقافية التي تفوح من الصورة المنشورة هنا وهناك في إطار اسطوانة "الزمن الجميل".

نشأ حليم بركات في المكان البيروتي التعدّدي، وتعلّم في الجامعة الأميركية الليبرالية، وتأثر بالروافد الثقافية اللبنانية، الجبرانية والسعادية والتموزية نسبة الى فؤاد سليمان وغيرها، وسرعان أصبح روائياً وباحثاً، من الرعيل الأول في الخمسينيات الذي جعل من المدينة واحة الشرق والغرب. يومها كانت بيروت مقصداً ومصنعاً ومحترفاً لإبراز أو المساهمة في إبراز الشخصيات الثقافية العربية، خصوصاً السورية والفلسطينية والعراقية، سواء تجربة سركون بولص أو بدر شاكر السياب أو محمد الماغوط أو يوسف الخال أو فؤاد رفقة أو نذير العظمة وأدونيس أو عزيز العظمة أو ياسين الحافظ أو جورج طرابيشي أو صادق جلال العظم وحتى نزار قباني ومحمود درويش أو غادة السمان أو بلند الحيدري...

كانت بيروت فضاءً لبروز الأهواء والتيارات والثقافات، ومحطة من محطّات منافي المثقفين والكتّاب والشعراء العرب، من بينهم حليم بركات نفسه. لكنها الآن تبدو في مرحله التيه والضياع، يتأمل بعض الناشطين فيها، كيف أن مدناً خليجية، "سرقت" وهجها بشكل من الأشكال، وكيف أنها منذ العام 2005 تحولت ساحة للاغتيالات، بعدما كانت في فترات سابقة ساحة حرب، وكيف أنها تعيش أسيرة سياسات دولية كونية، عدا عن تعرضها للاغتيال من خلال انفجار المرفأ... هي التي كانت ملونة، صارت خرابة في جانب كبير منها، وسط الأزمات السياسة ولغة السلاح..

الجانب الغريب في حياة بركات، وهو جزء من المشهدية اللبنانية المريبة، يتعلق بالجامعة الأميركية في بيروت، وهي مؤسسة ليبرالية عريقة، كانت تزايد في السياسة على أميركا نفسها. فصاحب "طائر الحوم"، غادر بيروت إلى أميركا لمتابعة تحصيله الأكاديمي، ثم عاد إلى لبنان وانضمّ إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ في مادة علم الاجتماع، إلا أنه وجد نفسه من جديد متجهاص إلى أميركا بسب عدم ترقيته في الجامعة الأميركية في بيروت، و"أظن أن سبب ذلك كان اهتمامي بالقضية الفلسطينية"، يقول بركات. والفضيحة أن شارل مالك، فيلسوف "الجبهة اللبنانية" الذي يمجده البعض الآن لدوره في صناعة "حقوق الانسان" في الأمم المتحدة، كان له دور في محاربة الماركسيين والقوميين بطريقة فيها شيء من السذاجة والوضاعة، وهذا ما اظهره صادق جلال العظم وهشام شرابي من خلال كتابتهما وحواراتهما. ولم يكن غريباً ما قاله حليم بركات عن شارل مالك، عندما كتب يوسف الخال، في جريدة "النهار" بتاريخ 6 اكتوبر 1960 ان "ادونيس شاعر لبناني مولود في إحدى قرى جبال العلويين. تبنّانا وتبّنيناه منذ لفظه موطنه الاول وأصبح بدون وطن. ما من عربي ذي قيمة، لا وطن له ولبنان موجود. بهذا لبنان لبنان. جغرافيته لا تعرف حدوداً في الارض. حدودها في النور".

رد عليه حليم بركات، في الجريدة نفسها فدعاه إلى التمييز بين الوطن والنظام القائم آنذاك والذي هجّر أدونيس لأسباب سياسية. ثم انتقل إلى لبنان الذي تغزل يوسف به غزل العاشق بحبيبته، فذكّره بأمرين: الأول انه –أي يوسف- ليس لبنانياً، والثاني أن لبنان ليس بلداً ديموقراطياً لسبب بسيط وهو انه يعتمد نظاماً طائفياً.

نشر الرد تحت عنوان ملفت "أدونيس شاعر غير لبناني". ولم يأخذ على خاطر الخال من رد بركات في "النهار" ومن ردوده الاخرى، خصوصاً المتعلقة بشارل مالك. فقد رد الخال بابتسامة حين اتهمه بركات في حوار جرى في منزله بحضور صديقه ورفيقه منير بشور، بأنه كمعلمه مالك "يتكلم عن الحرية بمنهج مطلق واستبدادي من الأعالي".

والحال أنّ شارل مالك ويوسف الخال من الأساطير السائدة التي حيكت وتحاك حولها الأوهام اللبنانوية والثقافوية والحداثوية، من منطلق الشعارات العريضة القائمة على الاستبداد المقنّع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها