الجمعة 2023/05/26

آخر تحديث: 13:48 (بيروت)

حان وقت القهوة السّادة يا "أم حمادة"...رحَل محمد جمال

الجمعة 2023/05/26
increase حجم الخط decrease
يوم سألني أحد الأصدقاء، في معرض النقاش حول الفن والفنانين والأغاني والرقص، لماذا لم تكتب عن محمد جمال؟ بدا لي أن ذاكرتنا مخردقة بالثقوب والثغرات والإهمال، وقائمة على اعتباطية ومزاجية وأدلجة فكرية، إذ نفرط في الكتابة عن فنان أو فنانة إلى درجة التقديس والأيقنة والتصنيم، ونهمل الكتابة عن فنانة أو فنان آخر إلى درجة النسيان... وغالباً ما ننتظر مستشرقاً أو مستعرباً ليرشدنا إلى ذاكرتنا وفنوننا الضائعة... 

أحسب أن المطرب اللبناني الطرابلسي(الأميركي) محمد جمال (اسمه الحقيقي جمال تفاحة)، والذي رحل عن عمر 89 عاماً في لوس انجليس بكاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، من الشخصيات التي نسيناها بلا أن ننتبه، على الرغم من شهرة أغانيه التي ما زالت في الوجدان ونرددها في السهرات والأمسيات، وتتطفل عليها أحياناً أصوات جديدة... والراجح أن جزءاً كبيراً من نسيانه يرتبط بهجرته وغيابه عن الإعلام، وحتى شبه غيابه عن وسائل التواصل الاجتماعي... والتحولات التي طرأت على عالم الفن... عدا النوايا المسبقة في بعض وسائل الاعلام بالاهتمام بشخصيات بذاتها...


قد يكون من المفارقات أن محمد جمال، صاحب الصوت الشجي والمتمّيز، قد رحل بعد ساعات من عيد ميلاده الـ89، فهو من مواليد (24 أيار/ مايو 1934)، وهو هاجر من لبنان أيضاً رغم أنه كان "رقماً" صعباً في الساحة الفنية العربية غناءً وتلحيناً، فكان نجم حفلات وسهرات الستينيات والسبعينيات، وكان مجدداً في الأغنية الشعبية اللبنانية ومزجها باللحن الشرقي الاصيل... ربما تجربته تشبه محمد فوزي في مصر.

البدايات
ولد محمد جمال في طرابلس 24 أيار/مايو 1934. وكان والده عوّاداً (يعزف على آلة العود، وهي آلة منزلية عائلية تقليدية في طرابلس)، ومنه تعلّم الفن وتتلمذ على يد أحد شيوخ المسجد. وأفاده ذلك في الأداء. فقدّم أغاني فريد الاطرش ومحمد عبدالوهاب... وكذلك الأناشيد الوطنية ولم يخطر في باله أنه سيصبح مطرباً، فهو قبل ذلك درس صيانة الكهرباء بل وتقدّم بطلب للعمل في شركة الكهرباء، لكنه بدلاً من الذهاب إلى الوظيفة، ذهب باتجاه شغفه الطربي والموسيقي. ففي العام 1954، حطّ الشاب العشريني في الإذاعة اللبنانية مع لحنَين أُعجب بهما آنذاك الموسيقار حليم الرومي، فنصحه بالاكتفاء بالتلحين دون الغناء على ما يزعم بعض كاتبي سيرته أو نبذة حياته، لكن ثقته في موهبته لم تخبُ ولم تتزعزع، فأصرّ على الغناء حتى تم قبوله بعدها كمطرب وملحن في الإذاعة اللبنانية.

عقب ذلك، سافر إلى القاهرة، وِجهة الفن والنجومية ومصدر الشهرة في تلك الفترة، وفي نيسان 1955، نشرت مجلة "السينما والعجائب" صورته، ووصفته بـ"كوكب السينما المنتظر" بعد ثلاثة شهور، بدأ يغني "ديو" مع شقيقته "فاتن" وعرفا بـ"جمال وفاتن" وسرعان ما اختفى أثر فاتن وقيل إنها تزوجت، وظهر محمد جمال، في فيلم "الأرملة الطروب" الذي أدت بطولته ليلى فوزي مع كمال الشناوي، وفيه غنى جمال باللهجة المصرية "آمين يا ناس"، وبالفصحى"أشرقت الأنوار"، ثمّ غاب عن الشاشة، وعاد إلى بيروت ليكمل مسيرته في الإذاعة اللبنانية التي انطلق منها.


في لبنان، التقى بمطربة أردنية من أصل شركسي تركي تحمل اسم طروب (اسمها الحقيقي أمل إسماعيل جركس)، عملت لشهور في كورس إذاعة دمشق، ثم انتقلت إلى صالة منصور حيث غنت منفردة العام 1956. أعجب جمال بها، وقيل أن أول لقاء بينهما كان في حفلة لوديع الصافي، وأهداها لحناً سُجّل في إذاعة لبنان، وبهذه الأغنية بدأ التعاون الفني بينهما. يذكر محمود الزيباوي في مقال نشر في "المدن"(جمال وطروب.. مايوهات بيروت وآهات دمشق) أنه في هذه الفترة، وقّع جمال عقداً مع الإذاعة اللبنانية لإنجاز برنامج "ابو زيد الهلالي" الذي ضمّ 36 لحناً، فرشّح طروب للعمل معه. تقاضى لقاء هذا العمل أجراً سمح لهما بالزواج في وقت قصير، فتمّ الزفاف في العام 1957. وشكّلا ثنائياً حمل اسم "جمال وطروب"، واشتهرا بأغنياتهما التي جمعت بين اللون المصري واللون "الشامي" في زمن موضة الثنائيات الطربية بين بيروت والقاهرة. لحّن محمد جمال هذه الأغاني، ومنها "قول كمان" من كلمات سيد مرسي، "أنا درويش" من كلمات ميشال طعمة، "اطلبي واتمني" كلمات إمام الصفاوي، "نوّر يا فانوس" كلمات علي السوهاجي، "دقة قلب" كلمات أحمد اسماعيل، "وحياتك أنا قلبي على نار" كلمات جمال صالح، و"ياختي عليه" كلمات سيد بدر.

في العام 1964، بعد سنوات قليلة من النجاح والشهرة، انفصل محمد جمال وطروب التي قالت "انها طلبت الطلاق ورغبت فيه، إلا انها أصيبت بصدمة بعدما تمّ الطلاق". تابعا طريقهما كل بمفرده، وبعد خمس سنوات على طلاقهما، عادا واجتمعا من جديد في أغنية بعنوان "تلفون" من كلمات محمد سعد لحّنها كالعادة محمد جمال. ومن ثم توالى ظهور محمد جمال في السينما المصرية إلى جانب كبار الفنانين في مصر مثل رشدي أباظة وتوفيق الدفن وغيرهم.

وذكر جمال في أكثر من اطلالة اعلامية مرئية ومكتوبة أن حياته الفنية تنقسم إلى مراحل عديدة، المرحلة الأولى هي البدايات وتكوينه لثنائي فنّي مع الفنانة طروب، ثم جاءت أغنية "آه يا أم حمادة.. اعمليلي قهوة سادة" التي كانت "وش السعد" عليه وانتشلته من الافلاس المادي والفني، وأحدثت ما يشبه "الثورة الفنية".

يقول جمال خلال لقاء التلفزيوني بأنه كان واثقاً من نجاح هذه الأغنية لدرجة انه طبع الاسطوانات على حسابه الشخصي بعدما بدأ يرددها الناس في المظاهرات مع تعديل في كلماتها حسب الواقع السياسي آنذاك، وبعدها توالت أغانيه الناجحة التي ما زالت معروفة وتتردد كل يوم..



تعاون جمال مع العديد من الشعراء الكبار بالإضافة إلى أنه قام بتلحين العديد من الأغاني لفنانات مثل صباح ونجاح سلام والمطرب السوري مروان حسام الدين... ينتبه الناقد عماد ادريس إلى أنّ غالبية أغاني محمد جمال الشهيرة التي لا تزال باقية معنا، هي من ألحانه. شكّل مع صديقه الشاعر اللبناني الراحل ميشال طعمة ثنائياً ناجحاً... أبرز مثال على هذا التعاون كانت «سيارته أكبر وفلوسه أكثر/ بس قلبي أكبر/ وحناني أكثر/ أكبر من سيارته وكنوزه وعمارته/ أكبر وحياتك أكبر"، و"بدي شوفك كل يوم يا حبيبي ولا تغيب عني ولا يوم يا حبيبي"... وتعاون جمال مع شفيق المغربي في أغنية وهي "ما عندي مال إعطيكي ولا عندي جاه إهديكي، عندي هالقلب يا قلبي وما بفكر إنو بيرضيكي"، بالإضافة إلى أغنيات مثل "علالي وقصور"، و"لالا اللولي لالا"، و"عالشوق بعتلك".

أيضاً تعاون مع الشاعر جورج خليل في أغنيات مثل "الدنيا حب وعمر الحب ما بيفهم بالهوية، قلبك شاب بتبقى شاب ولو عمرك فوق المية"، وأغنية "غيابك طال شغلت البال كيف الحال طمنّي"، و"يسعدلي صباحو"... ورغم أنّ رصيده الغنائي الأكبر كان من ألحانه لنفسه، إلا أنّه غنى أيضاً من ألحان الياس الرحباني في "ساعة وغنية"، و"كنا أنا وانت نتمشّى عالطرقات" إلى جانب ملحنين آخرين.


عدا السينما وأفلامها وأغانيها وخصوصاً "يا محلا ريحة بلدي"، شارك محمد جمال في مسلسل "شارع العز" لإيلي سعادة ومحمد شامل العام 1969، و"العائلة السعيدة" لإبراهيم خوري ومحمد شامل العام 1973. كما قدم مسلسل "قصر الحمراء" لإيلي سعادة ونزار مؤيد العظم العام 1971.  

في أواخر العام 1981 هاجر محمد جمال بسبب ظروف الحرب الأهلية في لبنان إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث افتتح مطعما في مدينة لوس انجليس بولاية كاليفورنيا سمّاه "بيبلوس" وكان يغني فيه يومياً، وفي العام 1984 عاد من أميركا حيث قام بنشاط فني ملحوظ بين 1984 و1986، وقدم العام 1985 اغاني جديدة. وافتتح العام 1986 مطعماً جديداً سمّاه "بردى" واستمر بتقديم فنه للجالية العربية في أميركا وكندا عبر جولات فنية في الولايات الأمريكية والكندية، وزار لبنان في منتصف التسعينيات وقدم اغنيتين هما:
بجناح الطير طيرتلك رسالة
يا نسيم الليل سلم عالحبايب
وبقي محمد جمال في لوس انجليس حتى رحيله...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها