الخميس 2023/05/11

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

طريق المطار

الخميس 2023/05/11
طريق المطار
هذا الطريق الوعر هو دعوة مفتوحة لفك الإرتباط مع العالم (أرشيف المدن)
increase حجم الخط decrease
على الرغم من الضجيج الذي يرسم ملامح طريق المطار، فإن هذا الطريق أكثر ما يُلزم المارّ عبره، بالصمت. يحسب المرء لدى مروره فيه أن لا بداية له ولا نهاية، إذ إنه في بعض نواحيه هو أقرب إلى المتاهة التي لا تكفّ عن ابتلاع العين. 

من النافل أن هذا الطريق المضطرب لا يلبّي في بعض نواحيه الحد الأدنى من احترام المكان للعين، بل تراه بمثابة الخدش الذي يحفر عميقاً في البؤبؤ المسكين.

لا يستطيع المرء أن يكون محايداً لدى تطرقه إلى الأمكنة بالإجمال. فالأمكنة، كما أرى إلى الأمر، هي امتداد للعين، شاء المرء ذلك أم أبى. فالعين في تحديقها في العالم ليست مجرد تلك الآلة البيولوجية التي استقرّت في الوجوه والتي تذرف الدموع وغالباً ما تشي بخريطة الروح. كلا، العين هي في الأصل واقعة برّانية، هي التخوم غير المحددة للعالم، وهي فوق ذلك كله بمثابة توقيع العالم الخارجي فوق الأمزجة والعواطف وصولاً إلى الأفئدة والآمال.

إن العين لدى شخوصها في بعض المطارح تراها محل إهانة وازدراء وهو ما لا يليق بهذه النافذة العتيقة... النافذة المشرعة دوماً حتى عندما تكون مغلقة.

أكثر ما تجيده العين في ذلك الطريق العويص والمعروف بطريق المطار، الإشاحة، وبعد الإشاحة تراها تسعى للتحديق في اللامرئي المتخيّل الكامن في إحدى ردهاتها... في ذكرى صورة ما مشدودة عبر الخيال والعين.

ثمة افتراء من قِبل طريق المطار على تلك الوجاهة التي تتمتع بها العين تاريخياً.
لطالما تمثّلتُ طريق المطار ليس كمحض طريق، إنما أيضاً كأرشيف معفّر بالفوضى والتيهان والإضطراب. ثمة نفي في هذا الحيّز المتلاشي للسان وللغة بل ثمة نفي متّقن لمتانة الحروف والكلمات.

إن الأرشيف المذكور أعلاه هو ما يتسيّد الفضاء العام لطريق المطار. إنه الأرشيف الضاج، المتواري، لكن الصريح في آن. تنصرف الحواس في طريق المطار عن إداء واجباتها كما أرادتْ لها الطبيعة أن تكون في علاقتها مع العالم. فالضوضاء هنا صوت مرئي، والمرئي هنا هو بمثابة ضجيج الأمكنة داخل العين.

يحاول المرء لدى عبوره طريق المطار أن يبدّد النظرات وأن يسوق هذه النظرات خبط عشواء، بيد أن متانة "التعفيش" هنا تملك من القوة ما يكفي للإستبداد بالعين. يملك هذا الطريق المهلهل تلك القوة التي تشدّ أواصر العين، استجماع النظرات وتداخُل الحواس... نعم، تداخُل الحواس.

فبعض تلك التنويعات على ضفتَي طريق المطار، ليس محض أمكنة متصارعة، بل أيضاً أصوات صاخبة تجهد بحق كي يسمعها كل من يمرّ من هناك. أكثر ما يشي به هذا الطريق المتمادي هو أن الصوت قد يكون ظاهرة بصرية، كما أن الشكل الخارجي هو في بعض مآربه حاجة اللسان لإعلاء الصوت.

لا يتكاثف المكان هنا كما تتكاثف الأمكنة في نواح أخرى من هذه الجغرافيا التي تتسكّع من أجل البقاء، وتُدعى لبنان. كلا، إن المكان هنا في طريق المطار هو محل استفحال وانقضاض ولا طمأنينة بالإجمال. في "كتاب اللاطمأنينة" وتحت عنوان "النظر والسمع" يقول فرناندو بيسوا: "النظر والسمع هما الشيئان الوحيدان النبيلان اللذان تحويهما الحياة". إن للنبالة سبُلاً شتى، لا ريب في ذلك، بيد أن كل تلك السبل تُصدّ لدى ازدراء المكان لناسه والذي هو انعكاس طبيعي لازدراء الناس للمكان. 

ثمة من أنبأنا في هذا العالم أن المكان ليس واقعة برّانية بالمرة، ذلك أن عتبة البيت هي بمثابة الأفق الذي لا حدود له... إن العتبة هي العالم البرّاني متكوّماً. فالعالم بحسب هؤلاء الذين قد أنبأونا بهذا الأمر هو في نهاية المطاف بيتنا، فالبيت لا يقتصر على محض تلك التسويرة من الجدران التي نعيش بداخلها، إنما هو امتدادنا الطبيعي فوق كل بقاع الأرض...

بالعودة إلى طريق المطار، فهذا الطريق الوعر هو دعوة مفتوحة لفك الإرتباط مع العالم، بل هو في بعض تعيّناته تفخيخ متّقن لتلك العتبة التي يصار عبرها إلى الإنخراط في العالم... كل العالم. هذا الطريق الفظ يتجاوز كونه طريق الهجرة من لبنان، إنما هو بمثابة هَجر العالم عن بكرة أبيه.

لست أدري ماذا قَصَد ميشال فوكو بالتحديد بمصطلح الهيتروتوبيا (Heterotopia)، بيد أن طريق المطار يفرض إغواءً تأويلياً على هذا المصطلح الفوكوي الرائع. بالعنوان العريض، الهيتروتوبيا هي أمكنة المغايَرة بالإجمال، أي تلك الأمكنة التي تُلزم ناسها بأنماط محددة من السلوك والقول وبتبني نظرة للعالم يرسم حدودها ومفاهيمها هذا المكان. كل الأمكنة الأخرى غريبة ،وربما مُعادية، بالنسبة إلى الحيّز الهيتروتوبي... إنه الحيّز الذي لا ينشط إلا عبر مقارعة الأمكنة الأخرى وتسييج نفسه في الوقت ذاته. لا يثق المكان الهيتروتوبي، كما يرى ميشال فوكو، في تلك الطرق التي تخترقه، إلا إذا كانت تلك الطرق محل انعطافات حادة.

ثمة رغبة لدى ناس الجغرافيا الهيتروتوبية في التماهي التام مع أمكنتهم بل وسحبها إلى باقي الأمكنة، ولو بالقوة. من النافل أن لا موقف قِيَمياً إزاء هذه الأمكنة وناسها، فالأمر لا يتجاوز الوصف، ولعله كان من الأجدى بالفيلسوف الفرنسي أن يزور طريق مطار بيروت وتشعباته الجوانية، بغية دوزنة مصطلحه بما يتلاءم مع الحدود الأخيرة لهذا المصطلح، ولإعفائنا كمجرد قرّاء من محنة تأويله... فالمغايرة هنا لا لبس فيها، والمكان هو حركة الجسد واللغة المحكية واللافتات المرفوعة...

رحتُ أقرأ على نفسي تلك الكلمات المدوّنة فوق اللافتات الكثيرة، بينما سائق التاكسي يبرطم بكلمات تشي بقرب انهياره العصبي...

ترجّلتُ من السيارة بسرعة ودخلتُ المطار الذي تتلقى طائراته المسكينة الرصاص الطائش من آن إلى آن... والذي ربما قد يكون موضوع المقالة التالية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها