الثلاثاء 2023/02/28

آخر تحديث: 11:24 (بيروت)

"نزهة في الطبيعة" لفاطمة الحاج... ذكرى الصورة وشعورها

الثلاثاء 2023/02/28
increase حجم الخط decrease
يمكن القول، وبحكم الصداقة البعيدة في الزمن، أننا تابعنا خطوات فاطمة الحاج منذ فترة طويلة، بدءاً من سنوات الدراسة، مروراً بالمعارض الأولى وحتى الأخيرة، وصولاً إلى سنوات التدريس في معهد الفنون الجميلة، الذي يبدو أن الفنانة تركت فيه أثراً لدى أعداد من الطلاب المتخرجين من بين جدرانه، والذين بدأ عدد منهم يسير خطواته الأولى في عالم التشكيل. هذا العالم، البعيد من السهولة والخفة التي يتصوّرها البعض، لطالما كانت الفنانة – المدرّسة تتعامل معه بجديّة ظاهرة بعيداً من نظرة الإستخفاف المذكورة، وهي التي لم تتوان عن توجيه نقد عالي النبرة في كل حين، ولم ترحم بعض طلابها ممن لم يمتلكوا إقتناعاً نهائياً بهذه "الرسالة" المعقّدة والمثيرة في آن واحد.

يأتي معرض "نزهة في الطبيعة" لفاطمة الحاج لدى "غاليري مارك هاشم"(*) في سياق تلك المسيرة التي بدأتها الفنانة منذ زمن ليس بقصير. وهي، إذ تحافظ على أسلوبها الذي عرفناه، ورأيناه في معارض سابقة، فهي لا تنأى عن السير فيه قدماً، إستكمالاً لما صنعته ريشتها في السابق، وتطويراً له حيت ترى حاجة إلى ذلك. في هذا المجال، صار من الواضح، لمن يعرف جيداً أعمال الفنانة، أو لمن إطلع على بعض أعمالها ولو بشكل سريع، أن اللون يلعب دوراً أساسياً في ما تفعله، بعدما تخلّت طوعاً عن بعض مبادىء الرسم التأسيسي، كالمدى المنظوري المحدّد والقياس، وذلك بإستثناء حالات قليلة، وعملت على التوفيق بين السطوح المتباينة في التأليف الواحد، استناداً إلى قيمها اللونية وتقابلها.

إضافة إلى ذلك، فقد حاولت التخلّي عن التسجيل الدقيق للعالم الموضوعي، المطابق لمظاهر الواقع البصرية، لتُكسب ما اتبعته من وسائل فنية إستقلالية معينة إزاء الموضوع. لكن هذا الأمر لم يمنع اللوحة من الإشارة إلى بعض العناصر التي تحدّد إرتباطها بالمكان، المميزة له عن أمكنة أخرى قد تكون لها طبيعتها الخاصة.

تعلم فاطمة الحاج إن الألوان التي يحدثها الضوء في إنعكاسه على الأشياء المرئية في فترة معينة، لا ترتبط بها كحقيقة ثابتة، بل تخضع للتحولات اللامتناهية في الطبيعة. لذا، تتحوّل اللوحة، هنا، إلى تجسيد لأحاسيس أكثر منها كتجسيد لواقع مرئي، إذ، وكما نخمّن، لم تجلس الفنانة أمام المشهد الطبيعي الممتد أمامها إلا في حالات قليلة. هذا المشهد الذي كان شغلها على طول الخط، لدى عملها على لوحتها، لم تجد الفرصة، كما نعتقد للقعود أمامه مع عدّتها، كما فعل الإنطباعيون في زمنهم، ولم تلجأ إلى الصورة على إختلاف تجلياتها، بل استعانت بذكرى تلك الصورة، وبالشعور المتولّد من اللحظة ذاتها، التي يتم خلالها العمل على اللوحة. أما في ما يختص بالشكل الإنساني فقد كان حاضراً غالباً في أعمال الحاج، لكن حضوره لم يكن، في الحالات كلّها، على المستوى ذاته، أكان من حيث مكانته – حجمه ضمن المتن، أو من حيث أهميته كعنصر يشغل مكانة معينة في عملية التأليف. فالشكل الإنساني خاضع، هنا، لما تفرضه عليه متطلبات العمل (اللوني)، وليس العكس.

لذا جاء هذا الحضور شكلياً إلى حد ما، ومن دون تفاصيل تحدد هويته، بقدر ما ينسجم مع الجو العام للعمل. لكنه، وخلافاً لما رأيناه في أعمال سابقة لها، صار أشبه بمكوّن أساسي في أكثر من عمل، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بتمثيل حديقة (باريسية كما يبدو)، إذا تصبح الجماعات البشرية منتشرة في أنحاء العمل، إستجابة لوظيفة الحديقة العامة المعروفة، التي تصبح مسرحاً لحركة البشر وجلساتهم في أنحائها، وتلبية لحاجة ذاتية يتطلّبها العمل نفسه في آن واحد.



ولا ريب في أننا نجد في أعمال الفنانة بعض ملامح الرمزية، وما عمل عليه النابيين Nabis، وهم الذين احتل المشهد الطبيعي لديهم مكانة بارزة، إذ تحوّلوا إليه لما يمكن أن يتضمنه من إشارات رمزية. وقد يكون من المناسب أن نذكر هنا ما قاله بول سيروزييه، الذي كان من المنظّرين الأساسيين لهذا الإتجاه، حين وضع تعريفه المشهور للعمل الفني، إذ اعتبر أن اللوحة "قبل أن تكون حصان معركة، أو امرأة عارية، أو أي قصة أخرى، هي أساساً مساحة مسطّحة مغطّاة بألوان وفق نظام ما". ويضيف أيضاً: "على التصوير أن يعمد، كالموسيقى، إلى مبدأ الإيحاء والعمل على ادخال المشاهد في عوالم غامضة غير محددة.. وعلى الفنان أن يقدّم الحدس على ما عداه، مهما تطلّب ذلك من مخالفة للطبيعة وأصول التصوير.. وأن يجعل من اللون وسيلة للتعبير عن العواطف التي ينظر من خلالها إلى الموضوع".

وإذ يجتمع بعض هذه المبادىء مع الإسهامات الذاتية في ما تصنعه فاطمة الحاج، فإننا نجد أنفسنا أمام نتاج يلبي مهمة فنية على نحو متكامل من جهة، ومن جهة أخرى فإننا نقف حيال متعة بصرية لا جدال حولها، وهو ما نجحت الفنانة في بلوغه منذ بدأت بمزاولة هذه "المهنة" الحسّاسة.

(*) يستمر المعرض حتى 7 آذار/مارس في "غاليري مارك هاشم"، بناية ميناء الحصن، وسط بيروت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها